قصة «مدينة المعجزات» بالإسكندرية: أرض الرخام وتحقيق الأحلام ومدفن القديس مينا

  • 4/10/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

وسط صحراء شاسعة مترامية الأطراف، لا تجد مفراً من لهيب الشمس الحارقة، تقف أعمدة صخرية ذات أشكال متباينة وسط سكون الرمال لتوحي إلى الناظرين بأن حياة نابضة ربما دبت هنا يوماً ما، وسرعان ما يتأكد هذا الشعور عندما تلتقط الآذان أصوات أجراس وترانيم، تتعالى عن بعد وكأنها جاءت تؤنس وحدة تلك الصحراء التي تبعد أمتاراً قليلة عن دير القديس «مار مينا العجايبي»، الكائن بمنطقة مريوط في أقصى المنطقة الغربية لمحافظة الإسكندرية. «المصري لايت» كانت هناك وراحت تقترب من مصدر الصوت الذي يتعذر الوصول له بالسيارة، لانتشار حبات الزلط السميكة على الأرض غير الممهدة، وكذا انبعاثه من تل صغير نسبياً لتجد نفسها بعد صعود سلالم تم حفرها حديثاً، واقفة أمام كشك خشبى، يتضح أنه كنيسة مصغرة شُيدت على أنقاض مدينة أثرية يعود تاريخها للقرن الرابع الميلادى. مدينة متكاملة كانت تحتوى على عدة مرافق، ورغم ما عاصرته من أوج أزدهار انتهى بها الحال إلى بقايا أحجار حيث تعرضت للسلب على أيدى قبائل البربر والأعراب وسقطت من حسبان المؤرخين لفترة ليست قصيرة. حكاية المنطقة رواها مرشد اصطحبنا قائلاً، أن تسميات عديدة اُطلقت عليها أشهرها «المدينة الرخامية»، كونها تتضمن 42 نوعاً من الأحجار الرخامية و«مدينة المعجزات» نظراً لتحقق آمال كثيرة كانت تبدو مستحيلة لأصحابها بعدما صلوا ودعوا بها أمام قبر القديس مار مينا، فبات كثيرون يتباركون بزيارته بل ويأتون إليه من أرجاء المعمورة، خاصة وأن الكنيسة التى بُنيت قديماً تعد الأولى بالعالم التي تحمل اسمه. وكانت هذه المنطقة المُدرجة من قبل منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي منذ عام 1979، مهددة بالخروج من القائمة نتيجة لتسرب المياه الجوفية إليها، لوجود أراضي زراعية تُحيط بها يتم ريها بتقنية الغمر، لدرجة أن قبر القديس مار مينا أضحى كبئر مغطى بالمياه، حيث غرق بعمق 7 أمتار مما حال دون زيارته. وأصبح الزائرين يكتفون بلمس المياه الطافية على سطح مقبرته للتبرك بها، وهو ما تنبهت له وزارة الآثار حيث تعاقدت مع إحدى الشركات المتخصصة لسحب المياه الجوفية وصيانة المنطقة. والقديس مار مينا المُلقب لدى المسيحيين بـ«الشهيد» والمولود عام 285 ميلادية، كرس حياته للتدرع إلى الله، بعد استقالته من الجيش الروماني الذي نال فيه منصب رفيع تكريماً لإجتهاده وتقديراً لوالده أودكسيس حاكم إقليم شمال إفريقيا. وأخذ القديس يجوب صحراء ليبيا التي كانت تابعة للساحل الشمالي، حيث قضى هناك قرابة 8 سنوات في أداء الشعائر الدينية وهو ما لم يرق للإمبراطور الروماني، خاصة بعدما أثنى القديس مار مينا الناس عن عبادة الآوثان. وتبع ذلك صدور أمر بتعذيبه حتى لفظ أنفاسه، وتقرر إضرام النيران بجسده لكن كانت المفاجأة حسب الروايات أنه لم يتحول إلى رماد بل ظل متماسكاً، ثم اصطحب مؤمنون أعتنقوا المسيحية جثمانه على جمل لدفنه بالصحراء الغربية، وعند نقطة معينة توقف الجمل ورفض التحرك فتم دفنه حيث توقف. وكان مدفنه عبارة عن حجرتين الأولى وُضع فيها جثمانه بينما خُصصت الثانية لإقامة الصلوات. ولا يُعرف تحديداً تاريخ تلك الرواية، إلا أن المصادر التاريخية تُرجح حدوثها خلال فترة إضطهاد الإمبراطورية الرومانية للمسيحيين بين القرن الأول والرابع الميلادي، لكن وزارة الآثار في لافتة موجودة بمدخل الموقع تؤكد عودة تاريخه للقرن الرابع الميلادي. وبحسب المرشد، تم بناء مدينة متكاملة حول المقبرة على مساحة 2000 فدان ضمت كاتدرائية كبيرة، ارتكزت على 56 عاموداً لازالت بقاياها موجودة حتى الوقت الراهن، إضافة إلى مستشفيات ومصانع للفخار. ولاشتهار المدينة بأنواع الرخام النادرة، جلب منها الخليفة العباسي المعتصم بالله حاجته من الرخام عندما شيد مدينة سامراء بالعراق، حيث أراد أنواعاً من الرخام تُضفي فخامة وذوقاً رفيعاً. وبدءاً من عام 859 ميلادية أى بعد الفتح العربى لمصر بقرنين، بدأت تشهد المدينة الرخامية سرقات عديدة بعد سيطرة قبائل البربر وكذلك قبائل بدوية عليها، حيث تصارعوا فيما بينهم على أحقية كل فريق بالمنطفة فسُرقت مقتنيات الكاتدرائية القديمة، ثم تهدمت وتم الإستيلاء على موارد المدينة الصناعية التي انتشر فيها لفترة وباء الطاعون، ثم ضربها فيما بعد زلزال أتى على ما تبقى منها. وتدريجياً دخلت تلك المدينة طور النسيان بكتب التاريخ حتى استرجعت مكانتها عام 1958 عندما وُضع حجر الأساس لبناء دير يُخلد ذكرى القديس مار مينا، في عهد البطريرك البابا كيرلس السادس إلا أن المنطقة الآثرية ظلت على حالها دون تعمير بإستثناء تشييد كنيسة خشبية حول بقايا الأعمدة القديمة عام 2003 تحمل اسم «كنيسة العذراء». وبالنسبة لأعمال الترميم التى تقوم بها وزارة الآثار للمنطقة، قال محمد متولى مدير عام الآثار الإسلامية والقبطية في الإسكندرية، لـ«المصري لايت»: «أعمال الترميم سوف تنتهي الشهر القادم بعدما تمكنت الشركة التي تعاقدت معها الوزارة من خفض منسوب المياه الجوفية التي كانت تُهدد بدمار المنطقة بأكملها، وهي الوحيدة بالإسكندرية المُدرجة ضمن قائمة التراث العالمي». وأضاف أن منظمة اليونسكو، لم يكن مطلبها الوحيد سحب المياه الجوفية، وإنما إزالة التعديات المعمارية المقامة بالمنطقة، وبالفعل تم التواصل مع الأجهزة الأمنية ومخاطبة القوات المسلحة التي قامت بدورها بالإشراف على عملية إزالة التعديات المتمثلة في فيلات صغيرة بناها بدو المنطقة. ويُتابع مكتب اليونسكو بالقاهرة بين الحين والآخر أعمال الصيانة بالمنطقة، حسبما قال متولي، الذي لفت لإقتصار زائرين المنطقة على رواد دير القديس «مارمينا العجايبي» وطلاب كلية الآثار، حيث أن المنطقة الأثرية غير مفتوحة للزيارة بشكل رسمي ولا تُقام رحلات مخصصة لها.

مشاركة :