التعويم يضخ دماء جديدة في شرايين الاقتصاد المتصلبة، وطريقة غير مأمونة العواقب وسيف مسلط على رقاب الفقراء.العرب عبدالجليل معالي [نُشر في 2017/04/11، العدد: 10599، ص(12)]الجدل حول تعويم العملة راجت في السنوات الأخيرة في العديد من الأقطار العربية فكرة تعويم العملة أو تحريرها، لكن عودة الفكرة إلى التداول والنقاش والاختلاف لا تعني أنها جديدة، بل تعود إلى سبعينات القرن الماضي في التجربة الأميركية عام 1971 والتي أدت إلى تصدع اتفاقية بريتون وودز الموقعة عام 1944. تحرير العملة أو تعويمها هو طريقة متبعة في إدارة السياسة النقدية والاقتصادية للدول، تقوم على جعل سعر صرف العملة محررا بشكل كامل، أي أن ينسحب البنك المركزي لدولة ما من التدخل في تحديد قيمة العملة ومعادلتها مع العملات الأخرى، ويترك ذلك ليحدد من قبل قوانين العرض والطلب في السوق النقدية. تنتجُ عن هذا التحرير ظاهرة تقلب أسعار الصرف بشكل مستمر عند كل تغيير يشهده العرض أو الطلب على العملات الأجنبية. واضح أن تحرير العملة يتصل بل يحدد السياسة الاقتصادية للدولة برمتها. ويمكن أن ينتج عن أزمة اقتصادية تشهدها هذه الدولة أو تلك. لذلك فإن التحرير يمكن أن يكون خالصا أو كليا عبر ترك تحديد سعر الصرف لقوى السوق وآلية العرض والطلب بشكل كامل وامتناع الدولة عن التدخل المباشر أو غير المباشر، أو أن يكون تحريرا موجها بترك تحديد سعر الصرف لقوى السوق وآلية العرض والطلب، لكن الدولة تتدخل عند الحاجة من أجل توجيه أسعار الصرف في اتجاهات معينة أو لتعديل المسار وتقليل المخاطر. قد يبدو الحديث عن تعويم العملة من جنس القضايا الاقتصادية الصرفة التي لا يخوض في تفاصيلها إلا خبراء الاقتصاد، لكن هذا لا ينفي أن لهذا الخيار انعكاسات سياسية واجتماعية متداخلة. لهذا فإن كل حديث عن تحرير العملة أو تعويم الجنيه في المثال المصري أو تحرير الدينار في النموذج التونسي أو الدرهم في التصور المغربي، يثير عاصفة من الجدل بين الرافضين والمتحمسين، وما بينها قراءات منسّبة تقول إن لا خيار غير الإجراءات المؤلمة، لذلك فإن السجال حول الإجراء وآثاره تحوّل إلى سجال سياسي بامتياز. أقطار عربية عديدة أعلنت أو أبدت ما يفيد نيتها البدء في تحرير عملتها، سواء كان ذلك بدفع وتحفيز من صندوق النقد الدولي، أو ناتجا عن قراءة ذاتية للوضع الاقتصادي، أو بدافع تضافر العاملين معا. وهي سياسة بدأ تطبيقها أو يُعتزمُ البدء في تطبيقها في تونس ومصر والسودان والمغرب والأردن. هذه الامثلة العربية لا تمثل سابقة في تطبيق الفكرة، حيث أن التجربة طبقت في مصر سابقا، في العام 2003 لجأ رئيس الوزراء المصري الأسبق عاطف عبيد إلى تطبيق تعويم الجنيه بعد ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء. يضاف إلى هذا أن العديد من دول العالم نحت هذا المنحى ونجحت في ذلك ولو بتفاوت، حيث نجحت الصين والهند والأرجنتين والمكسيك في تحقيق الفوائد المرتجاة من تحرير العملة، وقلصت من معدلات التضخم ورفعت صادراتها ومعدلات نموها وناتجها المحلي، مقابل فشل إندونيسيا وأذربيجان في ذلك لأسباب سياسية واقتصادية، فكان خروج رؤوس الأموال أكبر من نسق تدفقها. الرافضون لتحرير العملات يستندون في ذلك إلى “تجارب مقارنة” حيث أن الاطلاع على تجربة عقود من اعتماد أنظمة سعر الصرف المحرر، لم يحقق الوعود المتعلقة به بل زاد انخرام التوازن الاقتصادي حيث انخفضت الواردات وارتفعت الأسعار وزادت تبعا لذلك نسب الفقر في المجتمع باعتبار انخفاض قيمة “الأجر الحقيقي”. ثمة دوافع أخرى للرفض تبتعد عن الحقل الاقتصادي لتذهب نحو ادوات التحليل السياسي انطلاقا من ان تحرير العملة يكون ناتجا عادة عن “إملاءات” الصناديق المالية العالمية. المدافعون في التحرير ينافحون عن الفكرة والمنهج بالقول إن تحرير العملة يمنحها قيمة تنافسية ومصداقية في التعاملات الاقتصادية الخارجية، ويتحول إلى دافع لتطوير الصناعات المحلية وجذب الاستثمارات العالمية والسياحة وغيرها من القطاعات المتصلة بالعملات الأجنبية. وبهذا المعنى يصبح سعر الصرف الحر، الموجه أو الخالص، بمثابة انعكاس حقيقي لقيمة العملة. رفض الفكرة أو التحمس لتطبيقها لا ينبع فقط من قياس الفوائد أو الدوافع، بل يمكن أن ينتج عن الانتماء إلى مدارس فكرية وأيديولوجية مختلفة. النقاش المتصل بتحرير العملة أو تحريرها هو نقاش سياسي بالأساس، لا يكتفي فقط بالملامح الاقتصادية للمسألة، بل يذهب بها نحو مدارات متداخلة من الأبعاد الفكرية والاجتماعية والسياسية، لكن الثابت أن نجاح الإجراء لا يتوقف على دواعي الرفض أو منطلقات الحماس له، بل ينطلق أولا من طرق تطبيقه وما يتوفر له من ممهدات تشريعية وقانونية واقتصادية وسياسية. للمزيد: تنشيط للاقتصاد الوطني وانفتاح على العالم التعويم ضرب لقدرات المواطن الفقير
مشاركة :