لا شيء يدل على إمكانية التهدئة بين الأحزاب والقوى الشيعية العراقية، التي بدأت تخوض مواجهات فيما بينها داخل أروقة الجامعات والقاعات الثقافية والتجمعات الشعبية، وتستخدم جمهورها لتصعيد معقد. وقبل أن تتراجع حدة المواجهة بين التيار الصدري وجزء من جمهور حزب الدعوة الحاكم، انشغل العراقيون بما وصف بأنه تهديد بتصفية جسدية لزعيم التيار مقتدى الصدر. وحتى نهار الاثنين الماضي كاد أفراد حماية قيس الخزعلي، أحد زعماء الميليشيات، ينفذون مجزرة داخل جامعة القادسية بمدينة الديوانية، حين تظاهر ضده عشرات الطلاب، رافعين شعار "إيران بره بره"، كناية عن قربه من طهران. وبينما تشير المعلومات إلى أن هؤلاء الطلاب كانوا من جمهور التيار الصدري، عمد أنصار الخزعلي، قائد ميليشيات "عصائب أهل الحق"، المنضوية في "الحشد"، ليلاً، إلى إحراق مقر رئيسي للحزب الشيوعي العراقي، المعروف بمسالمته، وعدم قدرته على الرد، بيد أن كل تهم الشيوعيين في هذا الصراع هي تحالفهم مع الصدر في تظاهرات تكسب تأييد الشارع، الذي تحاول الميليشيات المضادة السيطرة عليه. وتتصاعد التحذيرات في بغداد من مواجهة بين الأطراف الشيعية، مع قرب موسم الانتخابات، الذي سيكون، حسب المراقبين، الأكثر سخونة منذ سقوط نظام صدام، قبل 14 عاماً. وسينتخب العراقيون خامس برلمان يتولى اختيار رئيس الوزراء، و15 حكومة محلية، في حين تتغير قواعد اللعبة بشكل دراماتيكي، إذ لا توجد زعامة موحدة داخل حزب الدعوة الحاكم، بعد انقسام قواعده بين رئيس الحكومة حيدر العبادي وسلفه نوري المالكي الطامح إلى عودة قوية، بعد أن خرج من منصبه بصفقة أقرب إلى الانقلاب على أكثر الساسة العراقيين ثراء ونفوذاً، ما سيجعل دوره السياسي، قبل الاقتراع، أشبه بعملية ثأرية تنتقم من الأطراف التي "خلعته". أما القاعدة الجديدة الأخطر في الصراع الشيعي الداخلي فهي طموح الفصائل المسلحة المقربة من طهران في دخول المعترك السياسي، زاعمة أنها الأكثر تضحية من طبقة السياسيين المتهمة بالإثراء غير المشروع والفساد. ويتحدث شباب الميليشيات، الذين لم تسلط عليهم الأضواء إلا بعد حرب "داعش" عام 2014، عن نيتهم تغيير النظام السياسي الذي "أنشأه الأميركان"، والمجيء بنظام رئاسي لا يقوم على التوافق بين الطوائف، ويكنون كراهية معلنة للأكراد وزعماء السنة، متهمين الجناح الشيعي المعتدل، وعلى رأسه العبادي، بأنه يقدم "تنازلات مهينة" لبقية الطوائف وواشنطن. وفشلت طهران في امتلاك نفوذ داخل حكومة العبادي بالحجم الذي كان متاحاً لها أيام المالكي، وتحاول تعويض هذه الخسارة باللعب على طموحات الفصائل المسلحة، والمالكي في الوقت نفسه، وتشجيعهم على الاستعداد لانتخابات استثنائية في لحظة دونالد ترامب، الذي لم يخف دعمه للعبادي ومعتدلي الشيعة، ومطالبته بغداد بـ"تنظيم" العلاقة مع طهران. ولا يبدو العبادي قادراً على الاحتفاظ بكياسته ومرونته طويلاً تحت ضغط الدعاية المضادة التي ينظمها خصومه الشيعة، لذلك اندفع أحياناً إلى تصريحات متشددة ضد السنة، في حين ينتظر الجميع فصلاً من الحوار الداخلي. وعلى عكس عمار الحكيم، الذي دعا، أخيراً، إلى حل مشكلة القضايا الكيدية التي تلاحق زعماء سنة وتمنعهم من العودة إلى بغداد، فاجأ العبادي الجميع خلال مناسبة عامة، وراح يتحدث بنبرة انفعال غير معهودة عن القادة السنة، متهماً إياهم بتحريك التمرد المسلح الذي دمر مدنهم وهجّر جمهورهم، ثم "الانتقال إلى السكن في الفنادق"، ومؤكداً أن هؤلاء لن يسمح لهم بالعودة إلى البلاد! ثم انتقل العبادي خطوة أخطر حين قال إن من ينتقد الحشد الشعبي "ستقطع يده"، وهذه صياغات تعود إلى حقبة المالكي، ولا تمت بصلة إلى القاموس الهادئ والمرن الذي عرف به العبادي. وتشير مصادر إلى أن رئيس الحكومة، الذي عاد قوياً وبشعبية واسعة بعد زيارة واشنطن، يحاول الدفاع عن نفسه باستخدام خطاب شيعي متشدد، للرد على الدعايات المضادة، والتهيؤ لموسم الانتخابات، لكن ذلك لم يهدئ خصومه الشيعة، وأثار ارتياب شركائه السنة والأكراد، وسيترك سيناريوهات الصراع مفتوحة على كل الاحتمالات وتثير قلقاً واسعاً عند الجميع.
مشاركة :