حكايات تافهة جداً "1"| السوبر ماركت

  • 4/14/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لقد أصبح الأمر واجباً لا فكاك منه، يكرهه، يحاول التهرب منه، لكن دون فائدة، خاصة أنه استنفد آخِر مؤنه منذ يومين، ويعيش منذ ذلك الحين على المُعَجَّنات، كما أنه ملّ أكل التونة الرديئة التي يبتاعها من الكشك المجاور لشقته الصغيرة. إذاً سيذهب إلى السوبر ماركت، أعدّ ورقةً باحتياجاته مسبقاً، وكانت على هذا النحو: (4 أكياس مكرونة - 3 علب تونة - كيس صدور فراخ، 1/4 جبنة قريش، 1/8 زيتون أسود، 2 كيس عيش). هيئته ومحتويات ورقته يمكنهما إخبارك بكل شيء عنه، بداية انحسار شعره عن مقدمة رأسه سيخبرك بعمرِه الذي يدور حول الثلاثين، عدم وجود خاتم الزواج في يده دليل على أنه ما زال يملك شيئاً من العقل، كما أن قميصه غير المكوي يبدد احتمال أنه نسيه في المنزل، كما أن ذلك غير مسموح به أيضاً. مشترياته تقول بأنه لا يهتم من الطعام إلا بما يسد جوعه، بمعنى أنه وسيلة للبقاء على قيد الحياة ليست للمتعة، حذاؤه ونظارته وساعة يده ستخبرك بأن حالته المادية ليست سيئة، كما أن نظراته العابسة تجعله يبدو كشخص مهم. انتهي سريعاً من جمع طلباته وها هو ينتظر دوره في ذلك الطابور الطويل أمام "الكاشير"، هذه دقائقه الأسوأ في مهمته التي يكره كل تفاصيلها، في المقابل وأمام الكاشير المجاور فتاة لن تملك من أمرك إلا أن تسترق بضع نظرات إليها إن كنت قديساً، أما وأنك لست كذلك؛ فمحاولاتك إثناء عينيك عنها ستبوء بالفشل، تقاسيم وجهها من هذا المسقط الجانبي تجعلها تبدو كأحد آلهة الإغريق التي نشاهد تماثيلها، شعرها المنسدل إلى منتصف ظهرها شديد السواد كليلة صيفية بلا قمر، ملابسها ليست لافتة إلى حد كبير لكنها أنيقة، أو ربما ليست كذلك، لكن أي شيء سيبدو على هذه الفتاة رائع، تبدو في حيوية ونشاط رغم أنها لم تبرح مكانها، تلتفت باتجاهه.. تنظر إليه.. أصبح يراها بوضوحٍ الآن.. ثبتت نظرها نحوه لثانيتين.. لا مستحضرات تجميل.. تبتسم.. لا عدسات لاصقة.. تزيد من ابتسامتها.. شمس أخرى تسطع الآن.. تومئ بوجهها إلى أسفل كتحية جارين متآلفين تقابلا في المصعد.. لم يحرك ساكناً، لم يستوعب الأمر بعد! رفع نظارته السوداء إلى منتصف رأسه، التفت يميناً وشمالاً.. نعم تعنيه هو! لا أحد غيره، همّ أن يرفع يده لتحيتها كأبله.. لكنها أشاحت وجهها عنه. مَن هذه؟! هل حقاً كانت تعنيني؟ هل تعرفني؟ أم أخجلها نظرتي لها فاضطرت لتحيتي، لكنها لم تكن مجبرة على ذلك، كان يكفي أن تدير وجهها فقط، إنها تستلطفني. يا إلهي كم هي جميلة، تبدو في منتصف العشرينات، إنها مناسبة تماماً، هل هي من انتظرتها طوال حياتي؟ ليس من عادته التفاؤل كثيراً، اعتاد على أن الحياة ليست بهذه السهولة وتصالح مع تلك الفكرة، لم يعتد الحصول على شيء دون جهدٍ مضاعف.. دون ثمنٍ غالٍ، وللحقيقة.. لم يعتد الحصول على شيء من الأساس.. هو خامل جداً وراضٍ جداً. في لحظات كهذه تذهب مخيّلاتنا إلى أبعاد لم نلِجها من قبل، وكعصافير تلهو على شجرة في ساعة شروقٍ تصبح أفكارنا، لا منطق.. لا نظام.. لا حواجز ولا ممنوعات.. أفكار متداخلة تمر بسرعة البرق.. وحدكما على شاطئ جزيرةٍ في المحيط الهادي.. في المطبخ ترتدي قميصك وتُعد طعام العشاء.. تحتضنها من الخلف فتضطرب ثم تضحك.. في مطعم معروف.. في الشارع تركضان في ليلة ممطرة.. تحملها على ظهرك.. في ليلة زفافكما.. في غرفة نومكما.. في سيارة مكشوفة على طريقٍ خال.. أو حتى تهاتفها ليلاً. يعود من نشوة أحلامه الوردية على كابوس غير متوقع.. شريكة خيالاته تَهِمّ بالمغادرة، ها هي تحمل حقائبها بمساعدة أحد العاملين وتتجه نحو باب الخروج، وما زال أمامه ثلاثيني بدين.. يبدو أن اسمه "أهاب"، لا يعلم لماذا لكن هناك أشخاصاً حين تراهم للوهلة الأولى تعلم أن اسمهم "أهاب" هكذا بلا ياء، أو هيثم على أحسن تقدير، سُترته الرياضية الجديدة وبريق خاتمه يوحيان بشخص لم يمر على زواجه ثلاثة أشهر، كما يوحي حجمه بأن مشترياته من الطعام التي ملأت سلة كبيرة لن تشرق شمس الغد على أي منها، فكر في ترك مكانه والخروج خلفها، لكن لا، فبعيداً عن أن الأمر سيبدو مفضوحاً للجميع، هو لا يرغب في العودة إلى "السوبر ماركت" من جديد لأي سبب كان، حتى لو كان ذلك السبب هي. أهاب همَّ بدفع الحساب إلا أنه تلعثم فجأة، وبدأ يَهزي بنصف كلمات كطفل اكتشف مؤخراً قدرته على النطق، لم يفهم الجميع شيئاً إلا آخر كلمة والتي على ما يبدو أنها اعتذار.. سار خطوتين بتردد ثم التفت واستطرد.. ثانية واحدة.. آسف ثانية واحدة نسيت حاجة. اللعنة (ليس هذا اللفظ الذي تلفظ به صاحبنا بكل تأكيد)، ممكن تحاسبني عشان مستعجل؟ رفض الكاشير طلبه بحجة أنه لا بد من غلق حساب أهاب أولاً قبل فتح حساب جديد، اللعنة عليك وعلى أهاب. ستنتظرني.. ستقف أمام حقيبة سيارتها الخلفية بحجة تنظيم مشترياتها، ستجري اتصالاً هاتفياً بصديقتها التي لم تتواصل معها منذ سنوات لتبدو مشغولة، سأنتظرها حتى تنهي مكالمتها، سأمر بجانبها مبتسماً، سأدّعي أنني أعرفها أو رأيتها مسبقاً في مكان ما، سنفكر سوياً، سنتحدث قليلاً، سأطلب في النهاية رقم هاتفها وأنصرف. (باريدوليا) الكلمة قفزت إلى عقلي، الباريدوليا لمن لا يعرف هو (محاولة العقل البشري جعل العالم الخارجي المخيف مألوفاً) نوع من تسويغ الحقائق أو قُل تجميلها لنتقبلها، أنا أتوهم كل هذا وعقلي يخدعني الآن! ماذا لو كانت لا تملك سيارة؟ لو أنها استقلت "تاكسي" ورحلت؟ ها هو الشاب الذي ساعدها في حمل حقائبها قد عاد، هل أسأله عنها؟ لكن سأبدو أحمق، سيحتقرني، سأكون وسيلته لإضحاك أصدقائه التافهين على المقهى في المساء، حين يحكي كل منهم عن يوم عمله. عاد أهاب أخيراً لينتشلني من سيل أفكاري الغريبة، عاد حاملاً في يده ثماني عبوات من الزبادي التي تحمل عبارة "عرض خاص"، نعم لا بد من الزبادي بعد كل هذا الطعام. أتساءل كيف له أن ينسى الزبادي؟! لا بد أنها أربعة له وأربعة لزوجته، هي في نفس حجمه، لا مفر من ذلك، أنا أراهم معاً الآن. * آسف يا باشمهندس ع العطلة. - ولا يهمك يا أستاذ أهاب. * هيثم! اسمي هيثم! حاول دون جدوى إمساك ضحكته، اعتذر، ها هو أمام الكاشير أخيراً، أخرج مشترياته سريعاً من السلة ليس لتقديم العون له بكل تأكيد، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فهناك قواعد للكاشير أهمها: لا بد أن يفشل الجهاز في قراءة أحد مشترياتك، لا بد للكاشير أن يحاول عدة مرات، وبعد محاولاته الفاشلة، لا بد أن يقوم بإدخال الرقم صعب المراس بشكل يدوي. * 111 جنيه حضرتك، خلّي! لم يرد، دفع سريعاً، حمل حقيبته وأسرع للخارج، نعم ما زالت تنتظر، كم هائل من الأدرينالين ينساب في جسده الآن، إنها تتحدث في هاتفها بالفعل، تتلفت، لا يبدو أنها تمتلك سيارة، هي في انتظار تاكسي على الراجح، لا لا لن أخفيكم سراً، هي في انتظاره، لسنا في ساعة الذروة، كما أن سيارتي أجرة قد مرتا أمامها تِباعا دون أن تلتفت لأي منهما، إذاً سيسير حسب خطته. أنهت مكالمتها، بدأ في التحرك نحوها، يعد خطواته، دقات قلبه تتسارع، ينظم أنفاسه أملاً في تقليل توتره، عادت خطوة للخلف فبدا طريقه إليها أقصر، ما بينهما الآن لا يتجاوز الثلاثة أمتار، سيارة قادمة بسرعة جنونية تقترب نحوها. ابتسم بخبث من يعرف خطوته القادمة، السيارة تقترب، تضع هاتفها في حقيبتها ولا تراها، ألقى حقيبته وبدأ يهرول، السيارة تقترب بشدة، وهو يقترب، نشوة اقتراب نجاحه تثير جنونه، سأمسك بها قبل أن يصيبها سوء، سأنقذ حياتها، سأكون بطلها إلى الأبد، ستحتضنني، ستبعد رأسي بيدها لتتأمل ملامحي جيداً، ثم تقبلني. أصبح خلفها مباشرة في جزء من الثانية، السيارة تتوقف بطريقة تثير الإعجاب والتعجب، كفيلم هوليوودي مصنوع بعناية، يده الممدودة على طولها لم تلمسها بعد، السيارة وقفت أمامها مباشرة، فتحت بابها، الجالس خلف المقود ينظر نحوه في تعجب، ودَّ لو أن الأرض انشقت لتبتلعه، لكن ذلك لم يحدث، اهتدى لفكرة، وسريعاً تظاهر بالإشارة لتاكسي جاءه من السماء، ولحسن حظه لم يتوقف، تراجع خطوتين للخلف، طفلة جميلة في المقعد الخلفي تبتسم إليه، تشبه الفتاه تماماً، أو قل والدتها، كل شيء أصبح جلياً الآن، كم كنت مغفلاً. أغلقت بابها، نظرت إليه باندهاش، هزت رأسها بشكل أقل وداً من المرة السابقة، وتحركت السيارة مسرعة. لم يستوعب ما حدث بعد، كل شيء ذهب أدراج الرياح. * "عمو اتفضل" غلام يمد يده بحقيبته التي ألقاها باندفاع منذ برهة. تناولها دون أن يشكره. تفحص ما بها، شكر الله على أن شيئاً لم يتلف، ولن يضطر للعودة للداخل من جديد، تلفت حوله ليتأكد من أن أحداً لم يلحظ ما حدث، تحسس ياقة قميصه كمن يتحسس وقاره المفقود، تحرك نحو سيارته كأن شيئاً لم يكن، حياته لن تتوقف، ستستمر، وسينسى بسهولة كما فعل من قبل، هي خيبة أمل جديدة تضاف إلى خيباته لا أكثر، خيباته التي يعتبرها مجرد رقم. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :