أشرنا في الجزء الأول من المقال، إلى تعريف الجنسية في القضاء العربي. وبالرغم من وضوحه قد يفهمه البعض من جانب آخر، بأن جميع مسائل الجنسية من أعمال السيادة، ولكن التمعن في هذه الأحكام يظهر بشكل واضح لا لبس فيه أن ما يُعد من أعمال السيادة هو التشريع أو الأحكام المنظمة والمحددة للجنسية، كالقواعد التي تحدد شروط منحها وشروط كسبها أو إسقاطها، أما القرارات التي تُصدر بموجب هذه الأحكام والقواعد أو بموجب القانون المحدد لهذه الأحكام والقواعد لا تعدو أن تكون قرارات إدارية يتعين على الجهة المعنية بإصدارها أن تلتزم بالقانون وألا تخالفه. لهذا جاء تأكيد محكمة القضاء الإداري المصري في موضع آخر على أن «ما تصدره الحكومة من قرارات تنفيذاً لهذا التشريع يندرج في أعمال الحكومة العادية ولا يُعتبر من الأعمال المتعلقة بالسيادة العليا للدولة، ولهذا فهو بعيد عن أعمال السيادة، ولا يعدو أن يكون من القرارات الإدارية المتعلقة بتنفيذ القانون». ومن جانب آخر، من حق الشخص الذي يُجرَّد من الجنسية أن يعرف سبب ذلك أولاً، ثم أن تتاح له ممارسة حق التقاضي، وفي المسار ذاته أيضاً، نرى أنه لما كان تجريد المواطن من جنسيته ينطوي على معنى الجزاء والعقوبة، بمعنى أن شخصاً ما تحققت في حقه إحدى الحالات المنصوص عليها في القانون فاستحق نتيجة لذلك تجريده من جنسيته، فإن ذلك لا يخرج عن الاستناد إلى قاعدة «أن الأصل في الإنسان البراءة». بمعنى آخر أن الأصل أنه لم يأتِ أو يرتكب إحدى الحالات التي تجيز تجريده من جنسيته، وعندما تزعم الجهة المعنية خلاف ذلك فإن عبء الإثبات يقع على عاتقها، وهذا الأمر يقتضي بالضرورة أن يكون قرار التجريد مسبباً، وأن تتاح للشخص المعني ممارسة حق اللجوء إلى جهة قضائية محايدة تفصل في صحة ما تزعمه الجهة المعنية في شأنه. وأخيراً، ومن جانب غير بعيد عما سبق، فإنه لما كان الأصل في الإنسان البراءة، فإن قاعدة «الشك يفسر لمصلحة المتهم» يجب ألا تكون غائبة هنا. وفي ذلك ذهبت المحكمة العليا بالولايات المتحدة الأميركية إلى أنه «في قضايا تجريد المواطن عن جنسيته يجب أن تُفسر الوقائع والقانون إلى أقصى درجة ممكنة لمصلحة المواطن». ونحن في هذا المقال نحمد للقضاء الكويتي ما ذهب إليه، إذ إنه وعلى الرغم من صراحة نص الفقرة الخامسة من المادة (1) من قانون رقم 20 لسنة 1981 بشأن إنشاء «دائرة بالمحكمة الكلية تنظر في المنازعات الإدارية» باستثناء مسائل الجنسية من نظر هذه الدائرة، فإنه فهم هذا النص فهماً داعماً للحماية الدستورية للحقوق، فاستقر قضاء محكمة التمييز الكويتية على أن «الأصل في حق التقاضي هو خضوع الأعمال والقرارات الإدارية لرقابة القضاء، وحظر تحصين أي منها من هذه الرقابة، وإن وجد هذا الحظر فهو استثناء وقيد على أصل الحق، فلا يجوز التوسع في تفسيره أو القياس عليه بما يمحو الأصل أو يجور عليه أو يعطله أو يتغول عليه…». وعليه ذهبت المحكمة الكويتية إلى تضييق نطاق الاستثناء وحصره في قرارات منح الجنسية فقط، مع التأكيد على اختصاص المحاكم في النظر في قرارات سحب الجنسية وإسقاطها. هذا.. والله من وراء القصد.د. حسن عبدالرحيم السيد ** أكاديمي وكاتب قطريhalsayed@qu.edu.qa
مشاركة :