التفجيرات الإرهابية التي استهدفت كنيستين في طنطا والاسكندرية، ولاحقا كمين أمني بالقرب من دير سانت كاترين، تنطوي على أبعاد خطيرة، لكونها تؤشر إلى انتقال تنظيم الدولة الإسلامية، نحو تنشيط هجماتها ودورها داخل الدولة العربية الأكبر والأقوى. استهداف الكنائس والمسيحيين بالأعمال والهجمات الإرهابية في مصر ليس جديدا، ولم يبدأ بما أقدمت عليه (داعش) بل سبقتها جماعات تكفيرية وإرهابية أخرى، من بينها جماعة الإخوان المسلمين التي اخترعت أسماء عديدة لمجموعاتها العاملة على تهديد الاستقرار الداخلي. كان من الطبيعي أن تتعرض مصر لضربات الإرهاب، التي لا يمكن أن تنجح في تحقيق اهدافها التدميرية، إن هي بقيت محصورة في سيناء. مصر كانت الحوت الكبير الذي تستهدف المخططات التقسيمية اصطياده وقتله، ولذلك فقد أصابت ثورة الثلاثين من حزيران 2013 هذه المخططات في كبدها. بعد كل ما أصاب العراق وسوريا وليبيا واليمن من صراعات وتدخلات خارجية، نتيجة أطماع العديد من القوى الدولية والإقليمية كان يمكن لنجاح المخطط في مصر، أن يؤدي لانهيار ما تبقى من النظام العربي، وتهديد وحدة الدولة القومية في المنطقة. مصر الحصينة بمقومات الدولة العميقة، شكلت الدرع القوي أمام انتقال تلك المخططات إلى دول عربية أخرى، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي. إدراك هذه الحقيقة، هو الذي دفع السعودية والإمارات والكويت إلى الإسراع في تقديم الدعم المالي السخي إلى مصر، على اعتبار أن ذلك، ينطوي على هدف حماية الذات. تدرك هذه الدول أن الدفاع عن استقرارها الداخلي لا يتوقف على ما تقوم به من إجراءات أمنية، اجتماعية، أو اقتصادية في مجتمعاتها، ذلك أن الوقاية تستهدف تحسين الدفاعات الخارجية. وهنا تشكل مصر، الملجأ الأساسي للإنقاذ بما تملك من إمكانيات كبيرة، ولذلك كان نجاحها في محاربة الإرهاب وتحسين أوضاعها الداخلية، أحد أهم الخيارات للدولة التي تستشعر التهديد. من المتوقع تماما، أن يؤدي انحسار دور ووجود داعش في كل من العراق وسوريا كما هو حاصل اليوم، حيث تتركز الحملة ضدها، إلى البحث عن ملاجئ وساحات أخرى، ومنها مصر نظرا لطول حدودها مع ليبيا والسودان، وبالتالي إمكانية تسرب المقاتلين والسلاح. وإذا كان من الصعب على الجماعات الإرهابية ان تحقق أهدافها، من خلال استهداف أجهزة الدولة العميقة في مصر، فإنها تتوجه نحو استهداف النسيج الاجتماعي، وبهدف كسر التوازن التاريخي الذي يقوم على التعايش بين المسلمين والمسيحيين. بعد أن فشلت حركة الإخوان المسلمين في مصر، وفشلت داعش في إقامة نظام الخلافة في أي من العراق وسوريا، لم يعد ثمة هدف للإرهاب الديني سوى الانتقام والتدمير، والقتل العبثي. الإرهاب من أجل الإرهاب فقط، هدف لا يمكن أن يحظى بدعم شعبي، مما يعني أن ممارسة هذه النشاطات التدميرية ستظل ذات أبعاد تآمريه سرية محدودة، لن يكون من الصعب محاصرتها والقضاء عليها. الرئيس عبد الفتاح السيسي أصاب كبد الحقيقة حين أعلن الحاجة لإحداث ثورة في الخطاب الديني، لتنظيف الإسلام والفكر الإسلامي مما تعرض له من عمليات تشويه وفتاوى تنزع عنه أبعاده الإنسانية السمحة. على أن خوض المعركة ضد الإرهاب الذي يستهدف تفجير الصراعات الدينية والمذهبية والعرقية، يتطلب تكاتفاً عربيا قبل الحديث عن أي تحالفات أخرى، أو توافقات وجهود دولية. في هذا الإطار ينبغي التنويه مجددا أن إدراك أهمية نجاح مصر في مقاومة وهزيمة الإرهاب بتأثير ذلك على ما تبقى من النظام العربي، إنما يتطلب من الدول التي تملك الإمكانيات المالية لأن تبادر مرة أخرى لتقديم الدعم المادي للدولة المصرية. النجاح في محاربة الإرهاب لا يتوقف على ما تقوم به الأجهزة الأمنية والجيش، بل يتطلب تغيير البيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمع المصري. تحتاج مصر إلى الكثير من الدعم المالي لكي تتمكن من تجاوز الدمار الاقتصادي الكبير الذي تركته السنوات الماضية، وتورثه النظام الحالي عن الأنظمة السابقة. ثمة ثقة عميقة بان الإرهاب لن ينجح في تهشيم النسيج الاجتماعي الذي يستند إلى إرث عظيم وتاريخي فشلت كل المحاولات السابقة في تبديده أو تهديد استقراره. غير أن هذا الاطمئنان لقوة ومناعة النسيج الاجتماعي في مصر لا ينبغي أن يقلل من أهمية القيام بكل ما يلزم، لاختصار الزمن وتقليل التكاليف ووأد الفتنة . الإرهاب لا دين له، ولا قيم يستند إليها، ولذلك فإن مقاومته تحتاج أيضا إلى استنفار طاقات الفكر والثقافة، ومنظومة القيم الإنسانية، ومحاصرته اقتصاديا، ذلك أن الفقر والعوز يشكل بيئة دافئة لنشوء الأفكار والنشاطات الإرهابية والإجرامية. ثمة حقيقة ينبغي إدراكها من قبل الدول المهددة بالإرهاب، خصوصا على المستوى العربي، وهي انه كلما انحسر وجود وفعل الجماعات الإرهابية بكل أسمائها وأنواعها في العراق وسوريا كلما كان من المتوقع أن تنقل نشاطاتها إلى أماكن أخرى. إنه السرطان الخبيث الذي ما أن تكتشف وجوده في مكان ما وتقوم بمعالجته، سيظهر بعد حين في مكان آخر.شارك هذا الموضوع:اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة)انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة)اضغط للمشاركة على Google+ (فتح في نافذة جديدة)
مشاركة :