ماتزال الحوارات، التي تتصل بموضوع تحقيق المصالحة الفلسطينية، تدور في حلقة مفرغة، بسبب غياب الأرضية الصلبة، التي تنطلق منها عملية البحث عن حلول لمشكلات ترسخت على أرض الواقع خلال الأحد عشر عاما من انقلاب حركة حماس. أحد عشر عاما أسست لمراكز قانونية عميقة يصعب تجاوزها بمجرد التوصل إلى اتفاقيات تلبي شرط التمكين الذي تتمسك به فتح، وشرط استيعاب نحو خمسة وثلاثين موظف مدني وعسكري، اعتمدت عليهم حماس في إدارتها لقطاع غزة. بفضل الوساطة المصرية يمكن الحديث حتى الآن عن إمكانية تحقيق تسوية جزئية لملف الموظفين، ماتزال غير مقبولة من حماس. تشترط الحكومة إدماج عشرين ألف موظف مدني في موازنتها للعام الحالي، وتطالب حركة حماس بأن تطبق التقاعد على عسكرييها، أسوة بما فعلت مع آلاف المنتسبين لأجهزتها الأمنية في غزة، بينما ترفض حماس ذلك وتبدي استعدادا لتسليم الجباية الداخلية بعد ضمان استيعاب كل موظفيها المدنيين والعسكريين. إذا كان من الواضح أن إصرار الحكومة على التمكين الكامل، حتى تقرر استيعاب أكثر من نصف موظفي حماس، فإن حماس ترفض تحمل أي مسؤولية عمن قامت بتوظيفهم لإدارة القطاع بصورة غير شرعية كما تقول حركة فتح. في الواقع فإن تجاوز هذه العقبة لا يعني بالضرورة إزالة العقبة الأصعب أمام إمكانية تحقيق المصالحة واستعادة غزة إلى حضن الشرعية الفلسطينية التي تشكك في شرعيتها حركة حماس. فلو افترضنا أنه تم الاتفاق على تجاوز هذه العقبة، وسلمت حماس كل الملفات التي تتصل بممارسة الحكومة لصلاحياتها، وأيضا تم تأجيل البحث في ملف المقاومة وسلاحها، فإن كل ذلك لا يحقق للحكومة والسلطة السيطرة على الأوضاع في القطاع. تأخرت السلطة كثيرا في التحرك نحو تحقيق المصالحة واستعادة غزة، وتعمقت كثيرا حماس في السيطرة على كل مقدرات وأراضي قطاع غزة. منذ الأيام الأولى لسيطرتها على السلطة في قطاع غزة، لم تدخر حماس وسعا في شراء ومصادرة أو إقامة مؤسسات مجتمعية ورسمية وفردية على أجزاء كبيرة من الأرض، فضلا عن أنها قامت ببناء عدد ضخم من المساجد، التي تستخدمها في إدارة شؤونها في القطاع. الحكومة تدَّعي أن حماس لم تسلم هذا الملف، بالإضافة إلى ملفات القضاء وأمن المؤسسات والجباية الداخلية، وترفض الاعتراف بشرعية توزيع الأراضي على موظفي حركة حماس، وإذا قيض للحكومة أن تتسلم مسؤوليتها في قطاع غزة، فإن فتح هذا الملف سيفتح عش الدبابير. وبالإضافة إلى كل ذلك فإن حماس تمتلك قدرة عسكرية تستطيع متى شاءت أن تضع فيتو على عمل الحكومة، حتى لو أن الحكومة انفردت بتشكيل الأجهزة الأمنية. الأكيد أن معالجة هذه التعقيدات الصعبة لا يمكن أن يكون من خلال إظهار النوايا الحسنة، ولا حتى بالاتفاق على ضمانات داخلية أو خارجية، فهذه وتلك من السهل أن يطاح بها عند وقوع بعض المتغيرات الخارجية. يحتاج الأمر أولا إلى حوار عميق يتميز بالصراحة والجرأة والوضوح، حوار نقدي شفاف يلتزم خلاله كل طرف الاعتراف بأخطائه وخطاياه والاعتذار علنيا للشعب. تنطوي قيمة هذا الحوار على استخراج الدروس بصورة جماعية أولا، وإحالة موضوع المحاسبة للشعب، الذي يعترف الجميع بأنه مصدر السلطات ولكنهم في الوقت ذاته يصادرون هذا الحق. هذا الحوار ينبغي أن يؤدي إلى التوافق بين الكل الوطني على البرنامج السياسي، وعلى طبيعة المشروع الوطني والأهداف الاستراتيجية والمرحلية، وهو أمر سهَّل ترامب ونتنياهو إمكانية التوصل إليه. يؤسس ذلك لإقامة حكومة وحدة وطنية، وتفعيل الإطار المؤقت لمنظمة التحرير أو أية قيادة إنقاذ وطني يتم الاتفاق عليها بما يسمح بإدارة الشأن الفلسطيني كله سياسيا واجتماعيا وثقافيا، ومعالجة كل عقبة تظهر في سياق إعادة بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية على أساس الشراكة والتكامل. سيبدو هذا الوضع مركبا من فوق من قبل الفصائل، التي فقدت الثقة بينها وفقدت الثقة بينها وبين المجتمع، إلى حين إجراء الانتخابات الشاملة. إن إعادة بناء الوضع الفلسطيني على أساس الشراكة، وانطلاقا من ضرورة إعادة الاعتبار للشعب كمصدر للسلطات يعني أن الانتخابات لا تقتصر على الوطني والتشريعي والرئاسي، فثمة حاجة ماسة لإعادة بناء المجتمع على أساس ديمقراطي بما يشمل الاتحادات والمنظمات النقابية والمؤسسات المجتمعية بحيث تنبني الشراكة أفقيا وعموديا. إن مرور المزيد من الوقت على بقاء الانقسام، من شأنه أن يدفع الأمور نحو سيناريوهات أخرى، تلحق المزيد من المخاطر التي تضعف قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة التحديات التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية.
مشاركة :