تقدم إلينا الرواية الغربية، تفاصيل ضافية عن مأساة المورسكيين، منذ بدايتها إلى نهايتها، وتخصها بكثير من التعليق والنقد. ولكن الرواية الإسلامية مقلة في هذا الموطن، مثلما هي مقلة في تاريخ الأندلس منذ سقوط غرناطة، فهي لا تعنى بتتبع مصير العرب المتنصرين، كما تعنى الرواية الغربية، ولا تقدم إلينا عن مأساة النفي سوى بعض الشذور والإشارات الموجزة. وأهم ماكتب في ذلك، رواية معاصرة عن أحوال الموريسكيين، ومساعيهم السرية للمحافظة على دينهم، وظروف نفيهم، كتبها مورسكي عاش في جيان وغيرها من قواعد الأندلس الجنوبية في أواخر عهد المورسكيين، ثم هاجر إلى تونس قبيل النفي بقليل، وكتب فيما بعد بالعربية كتاباً عنوانه: «الأنوار النبوية في آثار خير البرية»، يتحدث في نهايته في فصل خاص عن الموريسكيين المهاجرين، وشرف نسبهم، وينوه بحسن إيمانهم وتمسكهم بالإسلام دين آبائهم وأجدادهم، ووردت خلال هذا الفصل حقائق تاريخية هامة، عن النفي وأسبابه وملابساته. وقد يكون من المناسب أن نقله فيما يلي: قد كثر الإنكار علينا معشر أشراف الأندلس من كثير من إخواننا في الله بهذه الديار الإفريقية، حفظهم الله تعالى، بقولهم من أين لهم الشرف، وقد كانوا ببلاد الكفار، دمرهم الله، ولهم مئون من السنين كذا وكذا، ولم يبق فيهم من يعرف ذلك من مدة الإسلام، وقد اختلطوا مع النصارى، إلى غير ذلك من الكلام الذي لا نطيل به ولا أذكره هنا صونا لعرضهم وحبي فيهم. مع أني صغير السن حين دخولنا هذه الديار عمرها الله تعالى بالإسلام وأهله فقد أطلعني الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والدي رحمه الله عليه وأنا ابن ستة أعوام وأقل، مع أني كنت إذ ذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم، ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام، فكنت أتعلم فيهما معاً، وسني حين حملت إلى مكتبهم أربعة أعوام. فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز كأني أنظر الآن إليها مملساً، فكتب لي فيه حروف الهجاء وهو يسألني حرفاً حرفاً عن حروف النصارى تدريباً وتقريباً، فإذا سميت له حرفاً أعجمياً كتب لي حرفاً عربياً، فيقول حينئذ هكذا حروفنا، حتى أستوفى لي جميع حروف الهجاء في كرتين، فلما فرغ من الكرة الأولى، أوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي، وجميع قرابتنا، وأمرني أن لا أخبر أحداً من الخلق. وشدد على الوصية، وصار يرسل والدتي التي تسألني ما الذي يعلمك والدك؟.. فأقول لها لا شيء. وكذا كان يفعل عمي وأنا أنكر أشد الإنكار. ثم أروح إلى مكتب النصارى وآتي إلى الدار فيعلمني والدي إلى أن مضت مده. وقد كان والدي رحمه الله، يلقنني حينئذ ما كنت أقوله حين رؤيتي للأصنام... فلما تحقق والدي أني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب فضلاً عن الأجانب، أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وعمي، وبعض أصحابه الأصدقاء فقط، وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين، وأنا أسمع. فلما رأى حزني مع صغر سني، فرح كثيراً ، وعرفني بأصدقائه وأحبائه وإخوانه في دين الإسلام، فاجتمعت بهم واحداً واحداً، وسافرت الأسفار لأجتمع بالمسلمين الأخيار، من جيان، مدينة ابن مالك، إلى غرناطه، وإلى قرطبة وإشبيلية، وطليطلة، وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء، أعادها الله تعالى للإسلام، فتلخص لي من معرفتهم أني ميزت سبعة رجال كانوا يحدثوني بأمور غرناطة وماكان بها في الإسلام حينئذ، فباجتماعي بهم حصل لي خير كثير، وقد قرأوا كلهم على شيخ من مشايخ غرناطة، أعادها الله للإسلام، يقال له الفقيه اللوطوري رحمه الله تعالى ونفعنا به، فإنه كان رجلا صالحاً، ولياً لله، فاضلا زاهداً، ورعاً، عارفاً سالكاً، ذا مناقب ظاهرة مشهورة، قد قرأ القرآن الكريم في مكتب الإسلام بغرناطة، قبل استيلاء أعداء الدين عليها، وهو ابن ثمانية أعوام وقرأ الفقه وغيره على مشايخ أجلاء حسب الإمكان، ثم بعد مدة يسيرة، انتزعت غرناطة من أيدي المسلمين أجدادنا، وقد أذن العدو في ركوب البحر والخروج منها لمن أراده، وبيع ما عنده، وإتيانه لهذه الديار الإسلامية وذلك في مدة ثلاثة أعوام، ومن أراد أن يقيم على دينه وماله فليفعل، بعد شروط وعزموا على ترك ديارهم وأموالهم، ومفارقة أوطانهم للخروج من بينهم، وجاز إلى هذه الديار التونسية، والخضرة الخضراء برفقته من جاز إليها حينئذ، ودخلوا في زقاق الأندلس المعروف الآن بهذا الاسم، وذلك سنة اثنين وتسعمائة، وكذا للجزائر وتطاون وفاس ومراكش وغيرها، ورأى العدو العزم فيهم لذلك، نقض العهد، فردهم رغم أنوفهم من سواحل البحر إلى ديارهم، ومنعهم قهراً عن الخروج واللحوق بإخوانهم، وقرابتهم بديار الإسلام، وقد كان العدو يظهر شيئاً، ويفعل بهم شيئاً آخر، مع أن المسلمين أجدادنا استنجدوا مراراً ملوك الإسلام، كملك فاس ومصر حينئذ، فلم يقع من أحدهما إلا بعض مراسلات، ليقضي الله أمر كان مفعولاً. هذه نفحة من كتاب بقي لنا ليخلد جزءاً من محنة المورسكيين الذين فارقوا الأندلس مرغمين.
مشاركة :