لطالما ظننا أن الهروب هو السبيل للتخفيف من الضغوط والمشاكل العاطفية والأسرية والمادية ونسيان ذكريات مؤلمة، أو الهروب من الفشل الذي يلاحقنا نتيجة غياب الملامح والخطوط العريضة لمسارات حياتنا. لقد اعتدنا الهروب من الواقع المؤلم، فلكل منا أسلوبه الخاص في التعامل مع حياته الشخصية، فمن أساليب الهروب (النوم لفترات طويلة، التأجيل المستمر في القرارات الهامة، التدخين، تعاطي المخدرات، العزلة، تغيير مَن حولك، السوشيال ميديا، الكذب، الخيال، إدمان المواقع الإباحية، الانتحار.. إلخ). بَرَعنا في اختلاق أساليب جديدة ونطوّر منها لتخلق لنا حياة جدرانها من راحة البال والسعادة، فهو الشريك الوحيد بين كل الأساليب لخلق عالم خيالي. إن الهروب موازٍ لفتور العلاقة بين الإنسان وربه؛ حيث إن العلاقة الربانية تساعد في استقرار الحياة الشخصية، وتحقيق السلام الداخلي والرضا والطمأنينة، يقول تعالى في كتابه الكريم: "الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" [الرعد:28]. وللأسف أصبحنا نختلق المشاكل والأعذار والأوهام ووضع المعوقات يوماً تلو الآخر لنا ولمن حولنا لفرض عالمنا الموازي. إنه من الصعب على الإنسان أن يعيش ضحية للقهر والعجز النفسي؛ لأنهما يسببان حالة من عدم الاتزان؛ فيصل إلى حل ألا وهو التوجّه نحو الخرافة، إذا لم تتوفر له حلول غيرها، فإن الخرافة تعطيه وَهْم السيطرة على ما هو خارج نطاق احتماله، ومقدرته، ويصل بذلك إلى شيء من التوازن الوجودي. لنجد أنفسنا أمام أبواب نطرقها ونعلم أن ما خلفها ليس حلاً، ولكن لإرضاء ضمائرنا الشخصية نختارها بعناية لنخرج منها كما دخلنا، فهو المطلوب. دعونا نتساءل: هل الهروب سبيل؟ الهروب ما هو إلا عجز، أرددها بصوت عالٍ لعل آذاني تسمع وعقلي يعي، الهروب ضعف، واجِه فَشَلك ولا تهرب منه، واجِه ضعفَك ولا تنكره. واجِه نجاحَك واحرص عليه، واجِه خطاياك واعترف بها. الواقع هو واقع.. رضينا أم أبينا.. هو واقع.. اعترفنا أو أنكرنا.. هو واقع! البداية الصحيحة لمعالجة أية مشكلة هي الاعتراف بوجودها، ولا يمكن معالجة أي مشكلة دون الاعتراف بها أولاً، ثم محاولة تقدير حجمها، ومدى تأثيرها علينا ومن يحيطون بنا، فإننا نتأثر ونؤثر بالآخرين. إذا فكرت في الهروب من مواجهة الحقيقة، فإلى أين المفر؟ إن الحقائق التي تواجهها في حياتك ما هي إلا أقدار أينما حاولت أن تهرب فستجدها تلاحقك، كما أنها سوف تزيد يوماً بعد يوم، وستأتي اللحظة حتماً التي تجد نفسك فيها مضطراً للمواجهة، ولكن بعد أن تكون المشكلات قد استفحلت، وعندها يمكن أن تسقط خاسراً بعد أن تكون قد ضيَّعت الكثير من الوقت، عليك أن تتحلى بروح المبادرة. سير العظماء والنّاجحين على مرّ التاريخ تؤكّد لنا أنّ الهروب من الواقع لا كان ولن يكون حلاً أبداً، ولا بدّ للمرء أن يتسلّح بما يمكّنه من التّعامل مع واقعه بما يستحق.. يعزز إيجابيّاته، ويزيل سلبيّاته، ويصحح أخطاءه ما استطاع. أثبتت الدراسات أن أغلب الهاربين من حياتهم تتراوح أعمارهم بين سن (16 و28) عاماً - فترة المراهقة. وقد صنّف المصابون بمرض الهروب تحت مسمى علمي "الكلينومينيا"، مرض نفسي ذاع صيته مؤخراً بعد إحصائيات، أعلن معه أطباء علم النفس والاجتماع خطورة المرض وتهديده للمجتمع. وهو حالة من حالات المرض النفسي التي يكتفي خلالها الشخص بملازمة غرفته وأجهزته كالتلفاز واللاب توب والموبايل، وينعزل لفترات كبيرة عن العالم الواقعي الذي يعيش فيه، ويكون سعيداً بعالمه "الافتراضي". الأسباب المرضية تكمن في أن الشخص يكون قد تعرض لحالة من الاكتئاب التي يصاب بها نتيجة العديد من الأسباب، مثل الفشل في العلاقة العاطفية، أو التعرض لأزمة معينة، كذلك (فقدان الدعم النفسي - ماضينا والأحداث التي تعرضنا لها - التأجيل المستمر - الحساسية الشخصية المفرطة - الانطوائية). هل من علاج؟ دائماً ما يكمن العلاج في الرغبة والاعتراف.1- الدعم الإيماني: لا شك أنها الخطوة الأهم والأولى في طريق التقوية النفسية والدعم النفسي تجاه الشعور بالضعف، فالمرء بحاجة دائماً إلى الركون إلى جانب قوي قادر يستشعر حمايته وحفظه، كما يستشعر قدرته على توفيقه وهدايته إلى صواب القول والفعل والتدبير، وما من ركن أقدر على ذلك من التوكل على الله -سبحانه- واستشعار الاعتماد عليه، والركون إليه وتفويض الأمر كله له، لا إله إلا هو القادر العظيم، نواصي العباد بيده، ماضٍ فيهم حكمه، عدل فيهم قضاؤه، ومن ثم صار التوكل عليه -سبحانه- أعظم العلاجات وأنجعها في الحل، قال الله تعالى: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً"، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ما زال ينصح أمته بذلك، يقول: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله". 2- الصداقة المخلصة والأخوة في الله فيقول صلى الله عليه وسلم: "فلينظر أحدكم من يخالل"، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا مَثَلُ الجليس الصالحُ والجليسُ السوءِ كحامِلِ المسك، ونافخِ الكِيْرِ فحاملُ المسك: إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تبتاع منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحا طيِّبة، ونافخُ الكير: إِما أن يَحرقَ ثِيَابَكَ، وإِما أن تجد منه ريحا خبيثَة". 3- تغيير العادات: - البحث عن المشكلة وتشخيصها جيداً. - سؤال أهل الخبرة وجمع الآراء. - وضع الحلول المطروحة. - حل معظم المشاكل يكمن في المواجهة "كما قال ابن حزم -رحمه الله- اللقاء في المشكلات يحل نصف أزمتها. 4- لا تتعجل في اتخاذ القرار. في النهاية، لكي تتمكن من بداية الخروج من دائرة الهروب عليك استعادة ذاتك، فكثيراً منا فقد مواهبه نتيجة الضغوط والانشغال في الحياة، استرجع مواهبك وفنونك وماضيك، واطرق بابَ نجاحاتك الشخصية للتمكّن من الانطلاق. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :