عندما يحمل المرء معول التنوير في مجتمع يعمل فيه الأبناء من أجل إرضاء الآباء وصولا إلى إرضاء الأسلاف، فعليه أن يكون مستعدا لتحمل تحامل المتكالبين من كل صوب وحدب.العرب سعيد ناشيد [نُشر في 2017/12/28، العدد: 10854، ص(9)] طبيعي أن يكون لكل القضايا المصيرية خصوم وأعداء طالما أن الأمر متعلق في آخر المطاف بالصراع حول المستقبل، وتحديدا، حول السؤال ما هو المستقبل الذي نريده لأبنائنا ولأبناء أبنائنا؟ لكي لا ننسى فإن مبدأ التقدم التاريخي نفسه يقوم على معطى غريزي بسيط بمقتضاه يتمنى كل واحد منا أن يعيش أبناؤه حياة أفضل من حياته، ليس فقط في إطار الحياة الخاصة وإنما أيضا في إطار الحياة العامة. يتعلق الأمر بالغريزة الإنسانية الأكثر سموا ورفعة، إنها الغريزة المؤسسة لمفهوم التقدم التاريخي، لكن المعضلة أن قلة قليلة من المتصارعين في المجال العام، من تطرح على نفسها السؤال بكامل الوضوح: أي مستقبل نريده لأبنائنا، ولأبناء أبنائنا؟ كثيرون من يتصارعون من أجل السلطة، أو المال، أو المنصب، أو إرضاء أرواح الآباء والأسلاف، أو أحيانا أخرى قد يكون الأمر لمجرد المزاج السيء. حين لا نطرح السؤال الحقيقي والمتعلق بأي مستقبل نريده لأبنائنا، فهذا يعني أننا آباء سيئون بكل المقاييس. لعلنا من باب التعويض النفسي نسعى إلى أن نكون أبناء أوفياء لأسلافنا الموتى، لكننا لهذا السبب بالذات لا نستطيع أن نكون آباء جيدين. تلك باختصار هي معضلة البنية الثقافية التي ننتمي إليها، معضلة الكثيرين، بل الأكثرين، بل لعلها معضلة شعوب بأسرها قيدت نفسها بوهم إرضاء سلفها “الصالح”. حين لا نطرح السؤال أي مستقبل نريده لأبنائنا؟ فهذا يعني أننا لن نحرز أي تقدم ممكن، وأننا نفتح الباب على مصراعيه أمام كل الانفعالات السلبية، والأمزجة السيئة، والمؤدية إلى الكسل والخنوع والانحطاط الإنساني، من قبيل الحسد، والكره، والضغينة، والحقد، والجشع، إلخ. هل نسينا أن الانفعالات السلبية هي العدو الأول لرسالة التنوير؟ سبق لي أن تكلمتُ عن دور الفلسفة في أنسنة الإنسان من خلال تنمية قدرته على تدبير انفعالاته. قلت مرارا، الحكيم من يحكم نفسه. أضيف، لذلك، لأجل ذلك، كانت الفلسفة بمثابة السلّم الذي امتطته الحضارة مرورا بوثائق الثورة الفرنسية، ووثيقة الدستور الأميركي، ثم وصولا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. عندما يحمل المرء معول التنوير في مجتمع يعمل فيه الأبناء من أجل إرضاء الآباء، وصولا إلى إرضاء أرواح الأسلاف، فعليه أن يكون مستعدا لتحمل تحامل المتكالبين عليه من كل صوب وحدب، ومن حيث لا يحتسب، من الآباء الخائفين، من الأبناء القاصرين، ومن كل الكسالى الفاشلين. لكن ليس هنا يكمن جوهر المشكلة. هناك شيء نعرفه بالحس السليم: عندما تكون الفكرة ضعيفة وتفتقر إلى دعم رجال السلطة أو رجال المال، ساعتها يكون أنصارها قليلين لكنهم صادقون في المقابل. والصدق ضروري في كل الأحوال؛ لأنه يعني في آخر المطاف أن المرء منسجم مع نفسه، متصالح مع قدره الخاص به. هكذا يجب أن يكون نساء ورجال التنوير. وهذا المطلب بسيط حين يجد أرواحا معافاة، لكن ليس الأمر دائما كذلك. لقد مضى حين من الدهر كان فيه التنوير فكرة مهجورة من طرف الجميع على وجه التقريب: الإسلاميون، الشيوعيون، الناصريون، الأنظمة، محور الممانعة، إلخ. أما اليوم فربما بسبب حجم الفتن الدينية المنبعثة من رماد التاريخ والمشتعلة في العديد من دول ما كان يسمى بالربيع العربي، فقد بدأت فكرة التنوير تحظى فجأة بنوع من القبول والدعم من طرف بعض رجال السلطة هنا أو هناك، ومن طرف بعض رجال المال هنا أو هناك. ورغم أن السخاء الذي يحظى به التنوير لا يزال قليلا مقارنة مع السخاء الذي تحظى به الأصوليات لحسابات مختلفة أو متضاربة، إلا أن الأمور بدأت تتغير الآن، ويلوح للكثيرين كما لو أن الرياح آخذة في التحرك بما تشتهيه أشرعة التنوير، وأن سفن القدامى ستغرق لا محالة. كثيرون من فقدوا الأمل في سفنهم، فبدأوا يقفزون منها إلى سفينة التنوير التي لا تزال بحاجة إلى بنائين أكفاء بدل نازحين يطلبون النجاة، أو ينتظرون أن يقبضوا ثمن مراجعات تحت الطلب. نظريا يعدّ الانتقال إلى جبهة التنوير مكسبا لا بأس به ويجب أن نحافظ عليه. ولكي لا ندعي زهدا كاذبا فإننا لا نشك قيد أنملة في أن أي فكرة كيفما كان نوعها ستحتاج إلى بعض المال حتى تنجح وتتحقق. دون مال لا شيء ممكنا. لقد كان سبينوزا زاهدا في المال إلى حد أذهل خصومه من رجال الدين أنفسهم، غير أن فكر سبينوزا لم يكن لينتصر لولا دعم كبار تجار هولندا ثم سائر البورجوازية الأوروبية ولو بعد حين. هذا واضح، لكن المشكلة هي حين تنقلب الآية فيرتهن الفكر للمال، أو لا يشتغل الفكر إلا حين يرى من المال ما يُسيل اللعاب، فيصبح تحصيل المبلغ مبلغ همه. لا ننكر أن الزهد لا ينفع الفكرة بعد أن تولد، غير أن توليد الفكرة يحتاج إلى غير القليل من الزهد. قدر التفكير ألا يكون مرتهنا لأي شيء. هذا الأمر تدركه المنظومة الأميركية والتي تترك لمراكز التفكير هامشا من الحرية يجعلها لا ترتهن إلى المال داخل حضارة قائمة أصلا على المال. صحيح أن البطون الجائعة لا تفكر، غير أن الجشع أسوأ من الجوع. ذلك أن الجوع يشل التفكير بالتدرّج لكن الجشع يشله دفعة واحدة. لا بأس أن نتعلم من أساتذة التنوير قبل أن نقرر خوض المعركة، وهذا حتى لا نكون مجرّد عالة على فرسان التنوير. يقدم سبينوزا في “رسالة في إصلاح العقل” ثلاث قواعد للسلوك الجيد علينا أن نحفظها عن ظهر قلب: أولا، يجب أن يكون كلامنا في مستوى العامة. ثانيا، يجب أن نتمتع بملذات الحياة في حدود ما يساعد على حفظ الصحة. ثالثا، يجب ألا نرغب في المال إلاّ بقدر ما يفيدنا في حفظ حياتنا وصحتنا. لو كان الرأي رأيي لطالبتُ بتعليق هذه القواعد على مداخل كل الجامعات ومراكز البحث العلمي، لكي يحفظها الباحثون عن ظهر قلب على طريقة الوصايا المقدسة. انطلاقا من هذه القواعد السلوكية يمكن أن تبدأ عملية التنوير، وهذا قبل أن نبحث عن المال، والذي دوره أن يدعم الفكرة، لكنه لا يستطيع أن ينتج الفكرة. كاتب مغربيسعيد ناشيد
مشاركة :