ظهرت لفظة «روبوت» مطلع القرن العشرين، وكان ظهورها في الأدب الخيالي العلمي، وعاصرت التايلورية (نسبة إلى مهندس الخط الصناعي، تشارلز تايلور، في مصانع سيارات فورد بين الحربين) وبدايات الأتمتة الصناعية. ويعود إلى التشيخي كاريل تشابيك نحتها واقتراحها في 1920، من لفظة سلافية معناها «سخرة» أو «رق»، وذلك في مسرحية تدور حوادثها على آلات إنسانية المظهر ينتهي بها الأمر إلى الثورة، وإلى تحطيم الإنسانية. وأذاعت روايات إيزاك عظيموف اللفظة، غداة 1945. وهي تناولت دور هذه الآلات في التحديث المتسارع الذي شهدته الحرب الباردة. وفي عقد 1970، تجددت العناية بالخيالات الإنتاجية المولودة في أوائل القرن التاسع عشر، في سياق منازعات اجتماعية وسياسية حادة لابست أزمة الطاقة وبروز بطالة جماهيرية. وإنتاج الروبوت (أو الروبوتية) في السبعينات المنصرمة يجوز تأويله على الجمع بين نازع الرأسمالية الصناعية إلى العقلنة وبين لغة الخيال العلمي الجديدة، وعُهد إلى عظيموف بكتابة مقدمة أول كتاب تناول الروبوتية الصناعية في 1980، بالولايات المتحدة، وضعه جوزيف إي إنغيلبيرغر، ونشرته دار أماكوم النيويوركية. والمشتقات اللفظية مثل «روبوتية» (علم إنتاج الروبوت) و «روبتة» (إعمال الروبوت في قطاعات العمل المتفرقة، البيئية والشخصية والصناعية)، شاعت في الثمانينات مع ترك اللفظة دائرة التخييل المستقبلي ودخول الآلات المؤتمتة المصانع، وصناعة السيارات على وجه الخصوص حيث حلت هذه الآلات محل خطوط الإنتاج. والأسواق الأولى التي تلقفت الأجهزة الكاملة الأتمتة وجعلت منها سلعة تجارية هي الولايات المتحدة واليابان وأوروبا، في أعوام 1970. واستعملت في جمع أجزاء المنتج المصنوع ولَحمها، وفي تفريق الأعداد الكبيرة. وعادت على مستعمليها بأرباح كبيرة وبزيادة إنتاجية ثمينة. وأول روبوت صناعي سُوِّق تسويقاً صناعياً هو «يونيمايت» الشهير، وكانت مصانع جنرال موتورز للآلات والسيارات في الولايات المتحدة، أول من استعمله. وأخذته مصانع رينو الفرنسية، في 1976، عن جنرال موتورز. واقتصرت صيغته الأولى على ذراع معدنية مرنة في مستطاعها نقل غرض من محل إلى آخر. وأمست الروبوتية، في إطار منافسة محتدة، مورد قوة وفاعلية اقتصاديتين لا غنى عنهما، وسوقاً جديدة واعدة. وبلغ نمو هذه السوق السنوي، منذ عام 2000، نحو 5 في المئة. وعمدت الدول إلى مساندة قطاع الإنتاج هذا. ورَفده تطور البحوث في مضمار الذكاء الصناعي بموارد حفزت نموه، وتضاعف عدد الأجهزة العاملة، في بلدان العالم، نحو 1.5 مليون روبوت في 2015. ويقدر الاتحاد الدولي للروبوتية بلوغ هذا العدد مليونين وستمئة ألف في 2019، ومعظمه يعمل في الإلكترونيات وفي صناعة السيارات. وتدين الروبوتية الصناعية بشطر من إلهامها إلى التخييل والتصورات التي تتغذى من الانفعالات والمشاعر مقدار دينها إلى السيرورات الصناعية والمركبات الآلية. وسبق للمؤرخ ودارس الاجتماعيات دافيد نوبل أن تفحص «الهذيان الروبوتي أو التاريخ غير الأوتوماتيكي للأتمتة». ولاحظ أن الروبوتية الصناعية، وهي تخطو خطواتها الأولى، هجست بهاجس المراقبة والضبط، وحَداها حادي نوازع غير عقلانية بينها وبين الاعتبارات العقلانية والاقتصادية التي تنسب إليها بون شاسع. فثقافة المهندسين وحماستهم غير المتحفظة للآلات، على رغم ضعف مردودها في أوقات كثيرة، تحملهم على تطوير أكثر المسارات تكنولوجية ومستقبلية من غير النظر إلى وقعها الاجتماعي وفاعليتها الحقيقية. ومنذ السبعينات أنشئت الروبوت وطوّرت، ونصبُ نظر أولياء نشأتها وتطويرها تبوؤ مكانة ومواقع عالية في الأسواق العالمية، وسائقهم معالجة الأزمة الناجمة عن انحسار التصنيع في بلدان الشمال. وساندت مساعيهم هيئات مثل اتحاد الروبوتية الدولي، في 1987، ودعا الاتحاد إلى الرخاء والنمو الاقتصادي السليم، وإلى رفع مستوى المعيشة في الأمة من طريق الروبوتية وتطويرها. ومنذ 1973، نظم أول معرض للروبوتية في طوكيو، ورفع شعار «صناعة المستقبل مع الروبوت». ومذ ذاك، توالت تظاهرات تعزيز مكانة الروبوتية. وذاع ذلك في ما لا يحصى من الكتابات والخطب. وفي عام 2000 نظم أول معرض للروبوتية الفردية، وتقيم معظم البلدان الصناعية ندوات ومؤتمرات ولقاءات تمجد الروبوت وتدعو إلى إعمالها في كل المجالات والحقول. وإلى الأجهزة الصناعية التي تحل محل البشر في مرافق العمل، ابتكرت أجهزة روبوت تقوم بالقتال، وأخرى تسعف المسنين والأولاد، وصنف رابع يرعى نقل أصص الورد إلى أشعة الشمس، وصنف خامس يشغل المكنسة الكهربائية. فلا قيد بعد اليوم على الهذيان الروبوتي، وعلى تسلطه على حياتنا وعلى أفكارنا. وبعض الحقوقيين ينوي الإقرار بحقوق هذه الأجهزة. وثمة فلاسفة يستوقف تأملاتهم ما ينطوي عليه جهاز الروبوت من إنسانية، ودول تعول عليه في تخطيطها لتحفيز نموها الاقتصادي. وفي أيار (مايو) 2016، نظمت 200 شركة تصنع الروبوت بشمال باريس معرضاً عرض أجهزة طبية تسهر على صحتنا وطبابتنا، وأجهزة «أسرية»، وأجهزة تربوية وأمنية. وساهمت في معرض «إينّو روبو» هذا عشرات الشركات الصغيرة والنشطة، وباحثون يسعون في استمالة مصادر تمويل، ومندوبون عن مفوضية الطاقة النووية والطاقات البديلة (الرسمية)، وبعض التكتلات المالية الكبيرة. ولا تنفك الآلات المؤتمة تبعث المخاوف والشكوك، وتلوح بطيف البطالة الجماهيرية و «ذواء الإنسان» (على قول غونتر آنديرس). ويسعى التخييل الروبوتي وحماسته في طمأنة الرأي العام، وفي افتتاح أسواق تصريف لأجهزة لا يرى معظم الناس جدواها ولا الحاجة إليها. ومنذ أوائل الحلم الآلي (الأوتوماتي)، انتاب القلق عدداً من أهل الرأي، أكانوا من عالم العمال الذين راقبوا عن كثب انقلاب أعمالهم أم من بعض المفكرين النقديين في أحوال الحداثة. فقبل قرنين لاحظ الاقتصادي سيسموندي أن السعي المحموم في تعظيم الإنتاج والثراء ينبغي أن يؤدي إلى انفراد الملك البريطاني في قصره بإدارة عجلة آلة الإنتاج الضخمة، وتحريك المخلوقات الآلية العاملة نيابة عن البشر. ويخيم طيف «عجلة سيسموندي» في كل مرة تمتحن الرأسمالية أزماتُ التجدد، وتتسع الهوة بين الطبقات، ويعاد النظر في النظام التقني الصناعي، وتنبعث الخشية من ذواء الإنسان وحلول الآلات محله. ففي عقد 1880، حين ضرب ركود عظيم الرأسمالية، ونهض على أنقاض قطاعات إنتاج مدمرة عالم جديد ألَّف بين النفط والكهرباء والكيمياء، تساءل المهندس الأبوي إميل شيسون، شأن كثر أمثاله، عن المفاعيل الأخلاقية لـ «بطالة عامة»، وحذر من الأزمة المعنوية التي لا بد أن تصيب شعباً من غير عمل، ورأى أن وقعها أشد فتكاً من البؤس. وشخص شيسون إحدى معضلات المجتمعات الصناعية العصية والمحيرة، فلاحظ أن تقديس العمل يفضي في آخر الأمر إلى رغبة طوباوية في اضمحلاله وتلاشيه. وليس العمل، في اعتقاده جهداً مأجوراً (لقاء أجر) يرعى تلبية الحاجات الضرورية للبقاء وحسب، فقوام العمل هو الابتكار والمتعة والثقافة، والعمل أولاً وآخراً ركن الاشتراك في مجتمع متماسك. فماذا يترتب على اضمحلاله أو تلاشيه في هذه الحال؟ وفي مستهل أزمة 1929 التي عصفت بالولايات المتحدة وأوروبا، كتب جون ماينار كينز يقول: «نحن مصابون بداء جديد سببته طرائق إنتاج جديدة تغني عن اليد العاملة بينما يتأخر اكتشاف مرافق تحتاج إلى هذه اليد(...) فعلى البشر معالجة قضيتهم الأولى والثابتة- ماذا يصنعون بحريتهم، وكيف يشغلون وقتهم الذي يمنحهم إياه العلم والمصالح المركبة، وكيف يحيون حياة حكيمة وممتعة، حياة خيِّرة؟». وتكاد تجمع دراسات كثيرة تتناول آثار الروبتة في العمل على دور هذه السيرورة العريضة في تدمير مرافق عمل راجحة، والتلويح بعصر ازدهار جديد. وخلص باحثون من أوكسفورد، في 2013، إلى أن 47 في المئة من الأعمال والوظائف الموصوفة في اللوائح المهنية اليوم مقبلة على استبدالها بآلات وأجهزة روبوت وإنشاءات مرقمنة، على الأخص في قطاعات الخدمات ومهن النقل والأبنية التحتية والإدارة والإنتاج الصناعي السلعي. وتقدر دراسة أخرى حديثة أجرتها منظمة التعاون والنمو الاقتصاديين (OCDE) هذه النسبة بـ9 في المئة من الأعمال والوظائف. ولا يعقل استقبال مقترح «العائد العام المضمون» بالترحيب في أوساط ليبراليي وصناعيي «سيليكون فالي» إلا في ضوء فك العلاقة بين العائد وبين الوظيفة والعمل، وتبديد معوقات الحلم الروبوتي وتهديد العمل. ولكن وراء الحلم بالتحرر من العمل المأجور، وهو تطلع لم يفارق التصنيع وهجسه بالإنتاجية والأتمتة طوال تاريخه، ثمة أدوار وغايات مكتومة. فحين يحتج عمال فوكسكون، عملاق الصناعة المعلوماتية التايواني، على ظروف عملهم القاسية والمرهقة تجيبهم الإدارة بإلغاء معظم وظائفهم وتحويل مهماتهم إلى أجهزة الروبوت. فتاريخ الأتمتة الصناعية كله هو تاريخ منازعات اجتماعية ناجمة عن مطالب العمال واجتماعهم واحتجاجاتهم وانتدابهم نقابتهم إلى لجم النازع الصناعي إلى الاستغناء عنهم وإحلال الآلات محلهم. * أستاذ محاضر في جامعة بورغوني، عن «إسبري» الفرنسية، 3-4/2017، إعداد منال نحاس.
مشاركة :