معركة «تكميم أفواه» في بريطانيا

  • 5/4/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

بريطانيا غارقة هذه الأيام بحملة الانتخابات البرلمانية المقررة في 8 حزيران (يونيو) المقبل، وسط تنافس بين الأحزاب السياسية على من يقدّم التصوّر الأفضل لشكل العلاقة المستقبلية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد «الطلاق». وإذا كان هذا الجدل السياسي هو الطاغي على الحملة، إلا أن آخر برز على هامشها وتمثّل في معركة «تكميم أفواه»، وفق ما وصفها منتقدون، أطلقها الليبراليون ضد «المتدينين» وتركّزت حول شكل المجتمع، وهل يحق للسياسي أن يكون متديّناً هذه الأيام ويعطي رأيه بحرية، من منطلق فهمه دينَه، في شأن موضوع الميول الجنسية للمواطنين. كان زعيم حزب الأحرار الديموقراطيين تيم فارون أول الضحايا لحملة التيار الليبرالي. لم يشفع له، كما يبدو، أن حزبه محسوب أصلاً على التيار الليبرالي (اسمه «ليبرال ديموكراتس»). «جريمته»، وفق خصومه، هي أنه مسيحي ملتزم ممن يُعرفون بـ «المولودين من جديد» (من خلال طقوس العماد بالماء)، ولأنه هكذا افترض خصومه أنه لا بدّ وأن يكون له موقف سلبي من موضوع «الحريات الشخصية»، وتحديداً الزواج بين المثليين، على أساس أنه من أنصار تكوين الأسرة من رجل وامرأة. والأرجح أنه عبّر في لقاء ما عن رأي قريب من هذه الفكرة، لأن وسائل الإعلام المختلفة أخذت منذ اليوم الأول لانطلاق الحملة الانتخابية في نيسان (أبريل) الماضي، تسأله ليس عن رؤيته شكل العلاقة مع أوروبا بعد «البريكزيت»، بل عن العلاقة الجنسية بين المثليين: «هل تعتقد أنها خطيئة؟»، «هل هي خطيئة؟». سؤال تلو السؤال، ومقابلة تلو المقابلة، وفارون يكرر نفس الإجابة وهي أن الناس أحرار، وأن حزبه كان وراء مبادرات تكرّس الحريات الشخصية والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن ميولهم. لكن هذه الإجابات لم تُشبع غليل السائلين لأنهم كانوا يريدون إحراج فارون بدفعه إلى القول علناً إنه يعتبر العلاقة الجنسية بين أشخاص من الجنس ذاته «خطيئة» بالمعنى الديني، وبالتالي شن حملة عليه بأنه «منغلق» فكرياً، وبالتالي فإنه وحزبه سيواجهان خطر خسارة أصوات الليبراليين في الاقتراع المقبل. بعد قرابة أسبوع من المقابلات التي لم تركّز سوى على هذه المسألة (بما في ذلك طرح سؤال برلماني عليه في مجلس العموم من زميل له أراد أن «يعرف رأيه الحقيقي»)، اختار فارون تعديل جوابه. قال إنه لا يعتبر هذا النوع من العلاقات «خطيئة». أثارت هذه القضية غضب تيارات في بريطانيا تعتبر أن الليبراليين الذين يتبوأون مراكز حيوية في الدولة وأجهزة الإعلام، يشنون حملة لتكميم أفواه أي سياسي يجرؤ على تقديم موقف مخالف لهم في مجال الحريات الشخصيات، لا سيما من بين السياسيين المتديّنين. وفي هذا المجال، كتب روب ليديل في مجلة «سبكتيتور»: «جريمة فارون الشنيعة في نظر المؤسسة الحاكمة (establishment) هي أنه رفض -على الأقل لفترة وجيزة- أن ينفي اعتقاده بأن العلاقة الجنسية بين المثليين خطيئة. فارون من المسيحيين الإنجيليين المولودين من جديد، ولهذا فإن من الطبيعي أنه يعتقد أن مثل هذه العلاقة خطيئة. تخميني أن وجهة النظر هذه يتشارك فيها على الأقل نصف السكان وربما أكثر، على رغم أنهم ربما يستخدمون كلمات مثل (أوصاف مشينة) … عوض كلمة خطيئة». وقال إن المشكلة هنا أن «الليبراليين» لا يسمحون حتى بقبول أن رأياً، مثل الرأي الذي افترضوا أن فارون يحمله (قبل أن يتراجع أمامهم)، يجب أن يُسمح له بأن يكون موجوداً، على رغم أن كثراً من سكان البلد يؤمنون به. وكان ليديل يرد على ديفيد شريعتمداري الذي كتب في صحيفة «الغارديان» الليبرالية داعياً إلى عدم مواصلة الحملة ضد فارون وتركه لشأنه، قائلاً: «لا أعير شأناً لما يعتبره (فارون) خطيئة، ما دام ذلك لا يُترْجم إلى سياسة»، داعياً إلى إبقائه تحت «الرقابة» لئلا تصدر منه تصرفات لـ «قوننة التمييز» ضد المثليين. سيحتاج فارون على الأرجح إلى معجزة كي يصل إلى الحكم ويتمكّن من سن تشريعات تمس بامتيازات الليبراليين، لذلك فإن خطره يكاد يكون منعدماً ما دامت استطلاعات الرأي ترجّح بقاء حزب المحافظين في الحكم مع زيادة كبيرة في غالبيته، ما يعني أن سن القوانين سيكون في أيدي النواب المحافظين إلى حد كبير. وقد يكون الأمر من قبيل المصادفة (على رغم أن بعضهم سيعتبر أن هناك «مؤامرة ليبرالية») أن نائباً محافظاً وقع في فخ فارون بعد أيام فقط من هدوء «عاصفة الخطيئة». فقد أعلن أندرو تيرنر (63 سنة)، النائب المحافظ عن دائرة جزيرة وايت في جنوب إنكلترا، أنه سيتخلّى عن منصبه ولن يترشّح مجدداً في الانتخابات، وذلك بعد ساعات فقط من نشر تلميذة تبلغ من العمر 16 سنة فحوى جلسة نقاش سياسي جرت بينه وبين تلامذة في «مدرسة يسوع الملك» بمدينة نيوبورت، وقال فيها للطلاب إن «المثلية خطأ» وتمثّل «خطراً على المجتمع». وجاء موقفه هذا رداً على سؤال التلميذة هيذر باوتشر التي تصف نفسها بأنها مدافعة عن حقوق المثليين، عما إذا كان يخطط لحضور الاحتفال الأول لهؤلاء في الجزيرة، فردّ بأنه تلقى دعوة لكنه لن يحضر، موضحاً موقفه السلبي منهم بناء على مفاهيمه الدينية. غادرت هيذر الجلسة مع النائب ونشرت فوراً أقواله على الإنترنت، وما هي سوى ساعات قليلة حتى أصدر تيرنر بياناً أعلن فيه تنحيه، منهياً حياته السياسية التي دامت 16 سنة. هل قفز النائب من السفينة قبل مواجهة عاصفة خطيئة أخرى كالتي واجهها قبله تيم فارون، أم أنه كان يخطط مسبقاً لترك السياسة وفسح المجال أمام جيل جديد ليأخذ مكانه؟ مهما كان الجواب، فهناك من سيعتقد أنه راح ضحية «أصحاب النفوذ» الليبراليين في سدة الحكم في بريطانيا. ربما كان هذا صحيحاً، لكن الصحيح أيضاً أن المتديّن صار عليه أن يزن ملياً موقفه من شكل المجتمع قبل خوض غمار العمل السياسي، لأنه سيواجه مصيراً مماثلاً لفارون (الذي اضطر إلى تعديل موقفه من «الخطيئة»)، أو تيرنر (التقاعد المبكر).

مشاركة :