يبدو أن فلسفة القوة تدخل مجدداً في الأزمة السورية، على كل الجبهات العسكرية والسياسية، في الداخل والخارج، مع غياب كامل للحوكمة العالمية، وتموضع واسع للقوة الأميركية في الشمال السوري، إضافة الى مفاجأة استخدامها في مطار الشعيرات، وما حملته من رسائل الى موسكو وطهران وأنقرة، ما عجل في عودة موسكو مضطرة الى مفاوضات آستانة مع تطمينات للمعارضة لم تفصح عن مصدرها، وتخبط روسي مريب في مسألة المفاوضات، وفي الأزمة السورية كلها، أدى الى ارتباك الانخراط العربي فيها مع القوى الإقليمية والدولية التي تدخلت حتى في التفاصيل المملة مع أطراف الصراع في الداخل والخارج. يختلف الوضع الدولي الآن عما كان عليه قبل التدخل العسكري الأميركي، وقد يفضي الى تفعيل العمل السياسي عبر انخراط القدرة السابقة التأثير للقوة الأميركية في الضغط السياسي والعسكري. ومهدت واشنطن لذلك عسكرياً، ويُنتظر من دونالد ترامب ان يفجّر مفاجأة سياسية مدوية. وما الصمت الأميركي إزاء طروحات التفاوض إلا اللمسة الأخيرة في سيناريو القنبلة السياسية، فواشنطن عادت لتطرح نفسها أحادية القطبية على الأرض، ولا تقيم وزناً حتى لمعطف الأمم المتحدة ما دام للآخرين رأي فيه. الأطراف العربية الداعمة للمعارضات السياسية والعسكرية، تدفع بالأزمة الى أحضان واشنطن لفرض حلٍّ سياسي يُغيّر النظام، كلياً او جزئياً، ويبعد إيران وأذرعها عن الأزمات العربية جميعها، وذلك بناءً على اندفاع ترامب لاستثمار قدرة استعراض القوة في فرض واقع جديد. وفي موازاة ذلك تُرضي هذه الأطراف موسكو عبر الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، بعد فشلها في استثمار قوتها لخدمة الحل السياسي طوال حكم باراك أوباما، ووظفتها فقط لترسيخ وجودها ونفوذها العسكري والسياسي في المنطقة. ويبدو ان التطمينات التي أفصحت عنها المعارضة العسكرية، ما هي إلا إحدى ثمار هذا التحرك العربي الواسع. مفاجأة ترامب العسكرية وضعت بين يديه زمام المبادرة السياسية في الأزمة قبل أن يزج بثقله فيها، لذلك لم تتأخر المعارضات السورية في تقديم أوراق اعتمادها الى واشنطن، وأغلب الظن أن واشنطن تغربلها لفرزها عن التطرف المتغلغل في مفاصلها السياسية والعسكرية. أمّا اقليمياً فما زال الترقب سيد الموقف بعيون وآذان ورادارات مفتوحة، لقراءة ما في جعبة واشنطن من مفاجآت، تجاه النكبة السورية من كل جوانبها. ليس صحيحاً أن كيماوي خان شيخون، هو القشّة التي قصمت ظهر البعير وجعلت ترامب يستعرض عضلاته العسكرية، بل هي الحدث المناسب المنتظر لتوظيفه سياسياً، ودعم القواعد العسكرية الأميركية في الشمال السوري، ليس فقط للقضاء على «داعش»، بل إن الأهداف أكبر وأوسع بكثير، وربما تتجاوز سورية والعراق شمالاً وشرقاً وجنوباً. ودافعو ثمن المعارك الأميركية المقبلة يستعدّون سياسياً ومالياً، لأن الربيع المقبل لن يكون عربياً فقط، بل هو عربي وإقليمي، ولن يُترك الحبل على غاربه لمن لا تقبل أوراق اعتماده لدى القواعد الأميركية في الشمال السوري، وما قد يستجد من قواعد في الجنوب بين سورية والأردن وإسرائيل. فهل تؤدي مفاوضات آستانة الى وقف حقيقي للقتال بضغط روسي، هو فعلياً ضغط أميركي- أوروبي- عربي على روسيا؟ رقة قلب ترامب وعواطفه الجياشة تجاه الاطفال، جعلته لا يتردد في زجِّ قوته لحمايتهم والانتقام لهم، لذلك لا احد بعد الآن يتجرّأ على استفزاز هذا المتحفّز، او يغامر باختبار صبره إزاء المنغّصات الانسانية! وخيراً فعل الدب الروسي، إذ كظم غيظه امام اختبارات قوة ترامب التي قد يستثمرانها معاً للضغط السياسي بفاعلية اكبر. والسياسة هي الميدان الذي ستتواجه فيه فاعلية القوة المتحفزة، وفاعلية الحنكة السياسية، بين ثعلب التجارة الأميركية، وثعلب الديبلوماسية الروسية، في أتون الأزمة السورية. المفاوضات السورية في آستانة تقنية اجرائية، لكن خلفياتها سياسية بامتياز، سواء كتم الدب الروسي ذلك أو افصح عنه، وبانتظار دخانه الأبيض، تستثمر «جبهة النصرة» الوقت الضائع في التهجير والتغيير الديموغرافي، والتوسط لإبرام صفقات التبادل، باعتبارها جبهة «حياد إيجابي»، ليست معارضة ولا موالية، وعدواً ودوداً لإيران وقطر وتركيا والولايات المتحدة، خبرتها واسعة في اجتياز حقول الألغام السياسية والعسكرية الى حضنين دافئين عربي وإقليمي. سيعاد طبخ المفاوضات أممياً، لأهمية عدم خسارتها مرحلياً، وتفاؤل الأطراف العربية في قراءتها الموقف الأميركي المستجد، وتشاؤم إيران وتركيا منه باعتباره غير منضبط سياسياً وعسكرياً. أما قراءة روسيا للغة المفاجآت فلها أبعاد أخرى تتجاوز الأزمة السورية، إلى مصالحها في مناطق أخرى من العالم، وهي قد تناور بضمّ منصات جديدة، أميركية المنشأ والولاء، لإغراء واشنطن بقصر الأمر على التفاوض العسكري- السياسي الذي ينسجم مع استعراض عضلاتها، بدلاً من التفاوض السياسي المشوب بالتطرف في خطوطه، او خلاياه الخلفية المتأهبة للانقضاض واختطاف النتائج. مؤتمر آستانة الحالي لا ينفصل عن المطبخ الروسي الملتبس، لكنه معدّل بحذر شديد في ضوء الوجود الأميركي القوي في خطوطه التفاوضية. هذا لا يلغي احتمال العرقلة الحاضر فوق الطاولة، ريثما يزاح الستار عن مطبخ واشنطن السياسي والعسكري. * كاتب سوري
مشاركة :