الشعبوية كمصطلح فيه خلاف على بنيته التعريفية، فهناك شريحة تعرف هذا التيار من وجهة نظر أيديولوجية أو فلسفة سياسية أو كنوع من الخطاب السياسي القائم على استخدام الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية (النخب السياسية)، وأصل الكلمة من "الشعب"، أي الاقتراب من الفئة الشعبية لكسب تحالفات سياسية يفترض الخطاب الشعبوي التوجه المباشر إلى "الجماهير"، وفق تقويم أيديولوجي للنيات والنتائج. والخطاب الشعبوي يميل غالباً إلى العاطفة والحماس، ولا يعطي الرؤى والمعطيات أي اعتبار كنوع من استغلال تكابر النخب السياسية عن الفئة الأهم وهي الشعوب.. إن هذه التيارات تزعم أن السياسة أمر سهل، بإمكان الجميع ممارسته، وليست حكراً على طبقة معينة، بل حتى لا ترى أن الخطاب الدبلوماسي يجدي نفعاً، باختصار هي قاعدة شاذة من التيارات الموجودة في السياسة العالمية. مؤخراً ظهرت العديد من هذه التيارات على السطح السياسي العالمي، أصبحت مؤثرة على أنظمة الحكم، بل تقلدت الحكم في بعض الدول الكبيرة التي تنتهج منهج الديمقراطية بين قوسين، علماً بأن هذا التيارات لا تعترف بالديمقراطية المتفق عليها عالمياً، كبسط الحريات وحرية التعبير، وعدم تكميم الأفواه. لقد تحدث الكثير من النخب الإعلامية عن خطورة صعود هذه التيارات على الصحفيين والإعلاميين لمجرد الانتقاد أو وجود رأي مخالف لهم. لقد قيل بأن ظهور هذه التيارات بناء على عدة أسباب، من بينها بروز ظاهرة الهجرة واللجوء إلى الدولة، وضيق شريحة منهم، بالإضافة لضيق العمال والنقابات المهنية من بعض القوانين والتشريعات، بالإضافة إلى وجود انقلاب في السياسة الاقتصادية الليبرالية إن صح التعبير، وسياسات التقشف المالي، وقلة الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، بالإضافة إلى النزعة القومية، والدفاع عن الهوية الوطنية، والاستهزاء من موضوع حقوق الإنسان وتواجه "الليبرالية الاقتصادية" في أوروبا وأميركا، ومخاطر البقاء وسط الهجمة الشرسة من قِبل اليمين المتطرف والتيارات "الشعبوية البيضاء" التي تتنامى جماهيريتها، مع انحسار الرأسمالية بوجهها الانفتاحي المتمثل في تحرير الأسواق والاستثمار والتجارة، وفتح الحدود لتدفق السلع بين الدول. ففي أميركا بعد فوز الشعبوي المثير للجدل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدأ أول مظاهر (الانسلاخ) من الديمقراطية من خلال حرب إعلامية من قبل ترامب ومؤيديه على الإعلام الأميركي، بل وصل الحال إلى كيل الاتهامات لهم بالخيانة والعمالة. ظهر أيضاً من خلال تغيّر السياسة العامة للولايات المتحدة الأميركية وعلاقاتها الخارجية من خلال دعم أعداء الأمس (روسيا)، وإظهار العداء لأصدقاء أميركا القدامى كالسعودية واليابان وكوريا الجنوبية ولو بصورة غير مباشرة. برز جلياً من خلال حظر دخول مواطني بعض الدول الإسلامية رغم مخالفة هذا الحظر القوانين واللوائح الدولية القائمة أصلاً على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وعدم تنفيذ سياسة الكيل بمكيالين، وتمكين أسلوب العقاب الجماعي، كلها أساليب من شأنها ضعف الثقة العالمية في مسألة الديمقراطية الأميركية التي كان ينظر لها على أنها المثال الأفضل لها في العالم. أما فرنسا، فنرى أن تقدم حزب الجبهة الوطنية بزعامة الشعبوية (مارين لوبان) التي تحمل نفس أفكار صديقها رئيس حزب الحرية في هولندا، حتى إن مارين لوبان دعمت صديقها فليدرز في حملته الانتخابية. وقد ذكر الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، في كتابه "المتمرد"، أن أهمية الديمقراطية فيما تمنعه أكثر مما تسمح به، وقال إن هذه البصيرة من الكاتب ستكون محل اختبار الآن بعد انتخاب ترامب الذي يبدو أنه لا يحترم منصبه، وقد تكون اختباراً أيضا لفرنسا؛ حيث هناك فرصة أن تكون الرئاسة من نصيب شخصية عنصرية، وحينها ستكون الديمقراطية بحق تحت المجهر. وأشار الكاتب إلى أن التصويت للوبان يعني التصويت للعنصرية، وأن شعبية الجبهة الوطنية أكثر من مجرد تعبير فطري عن ظاهرة عالمية، بل هي فرنسية أكثر من ذلك؛ لأن والدها يعتقد أن المجد الوطني أفضل من الديمقراطية. فإن فازت لوبان ستعمل جاهدة على منع الحجاب، ومنع اللجوء والهجرة، بصورة كاملة، بالإضافة إلى عمل استفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي، في محاولة لشن أعنف هجوم على الديمقراطية الغربية القائمة على احترام حقوق الإنسان، بغض النظر حول الدين والعرق واللون. نجد كذلك صعود التيار الشعبوي واستشراءه بصورة سريعة في الساحة السياسية الأوروبية، ففي النمسا برز حزب الخضر الذي يدعو لسياسة اقتصادية جديدة غير رأسمالية، وتمكين ما يسمى (الاقتصاد الشعبوي) القائم على تمكين النقابات والعمال، أي الأكثرية الشعبية، هذه الإجراءات من شأنها أن تقرب المواطن من الحكومة وتزيد من الثقة المتبادلة بين الطرفين، بالإضافة إلى بروز هذه التيارات في سلوفاكيا والتشيك والكثير من دول البلقان. سنجد بعد مدة أن هذه الطريقة من الحكم انتشرت في دول آسيا الشرقية وبعض دول إفريقيا القائمة أنظمتها على تهميش الفرد، وانتشار الفساد، ويظهر مجموعة من الشباب الغاضب لحمل هذا التيار المتنامي. إن الخطاب الشعبوي قائم على استغلال أخطاء الحكومات وتحويلها إلى ورقة يلعب بها أصحابها، بل وأخذ قضية تهم المواطن، والتحدث بطريقة قريبة إلى لغته وإبعاد خطابات النخب السياسية الذي يعتمد على الكلام المنمق والمتشعب إن جاز التعبير، بالإضافة إلى ادعاء ما كان يسمى في الدول العربية بالقومية وإبراز الشوفينية كشعار لتنفيذ أجندات معينة، وتمكين مصطلح ديمقراطية غير ليبرالية، أرى أنه من المنصف أن نرى هذه التجربة الجديدة المتنامية بوضوح وتقييمها على المستوى العالمي، وهل تجدي في تحسين السياسة الاقتصادية للدول رغم تطرفها؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :