مرض الديمقراطية الليبرالية يعبّد الطريق أمام التيارات الشعبوية

  • 12/17/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

باريس - تعيش الديمقراطية الليبرالية أسوأ فتراتها بعدما عرفت تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة، فبعد بريكست ثم انتخاب دونالد ترامب ثم فوز الشعبويين والقوميين في إيطاليا وجاير بولسونارو في البرازيل عام 2018، يبدو أن الانتخابات الأوروبية في 2019 ستفاقم حضور التيارات الشعبوية. في هذا الصدد، كتب المحلل السياسي الأميركي ياشا مونك في كتاب “الشعب ضد الديمقراطية” أن “المواطنين يبتعدون عنها بأعداد ما فتئت تتزايد". وهذا النظام الذي يجمع بين سيادة الشعب والسلطات المضادة (القضاء والإعلام والمجتمع المدني) ساد الدول الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن اليوم كما يؤكد مونك “نظام الحكومة هذا الذي كان يبدو غير قابل للتغيير، يعطي الانطباع بأنه قابل للانهيار بشكل مفاجئ". والسبب الأساسي يكمن في الطبقات المتوسطة -عماده البشري والسياسي- التي أهملتها هذه الحكومات. من جهتها، ذكرت الأميركية كوري شاكي المديرة العامة المساعدة للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية أن “نشوء طبقة متوسطة يعد عنصرا بناء في الاستقرار السياسي". وإزاء تفاقم الفقر الناجم عن اقتصاد يزداد انفتاحا، واشتداد الضيق بسبب تراجع السيادة، فإن هذه الطبقات المتوسطة تتمرد ضد الانهيار وربما حتى ضد غيابها الاقتصادي والثقافي، بحسب خبير الجغرافيا الفرنسي كريستوف غيلولي في كتابه الأخير “نو سوسايتي”. ويمكن للرئيس إيمانويل ماكرون أن يؤكد ذلك، فحين ثار قسم مهم من الشعب بسترات صفراء هذا الخريف في فرنسا، بات الوضع تقريبا خارج السيطرة بالنسبة للحكومة. ومن مطالب الفرنسيين استعادة السيادة الشعبية التي يرون أنها فقدت. وبحسب استطلاع لمعهد إيفوب أنجز يومي 16 و17 أكتوبر فإن 8 بالمئة فقط من الفرنسيين يرون أنهم يملكون السلطة مقابل 54 بالمئة يرون أن السلطة باتت بيد أسواق المال. ويشير شعار بريكست إلى الأمر ذاته “استعادة السيطرة” وكذلك تنديد ترامب بالرؤية متعددة الأطراف وتغليبه التفاوضَ مع الشركاء الدوليين فرادى. الطبقات الشعبية تمارس "القوة الناعمة" على النخب لإجبارها على العودة إلى حكم يمارسه الشعب الطبقات الشعبية تمارس "القوة الناعمة" على النخب لإجبارها على العودة إلى حكم يمارسه الشعب ورأى باتريك مورو -رئيس تحرير فصلية كندية- في مقال بصحيفة “لو دوفوار” أن السيادة الشعبية “تراجعت كثيرا” والسبب قواعد اللعبة التجارية الدولية والأهمية التي باتت لـ“الأقليات". وفي حين لا تخضع قواعد التجارة الدولية “أبدا لأي نقاش حقيقي” فإن الأقليات تسعى لاستغلال دولة القانون لمصالحها الخاصة في “نزال حقوقي” يقوض “دور سياسة الأغلبيات التاريخية لصالح محاكم ومجموعات صغيرة من الناشطين”. واعتبر ياشا مونك أن هذا الاختلال بين السيادة ودولة القانون أدى إلى “قيام نوع من الليبرالية غير الديمقراطية في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. وفي هذا الشكل من الحكومة فإن الخصومات الإجرائية تتم متابعتها بعناية وحقوق الأفراد تحترم لكن الناخبين أدركوا منذ فترة طويلة أن تأثيرهم على السياسات العامة بات ضئيلا”. وفي سبيل إسماع غضبها، تتحدى هذه الطبقات الشعبية هياكلها الوسيطة (النقابات ووسائل الإعلام) التي أصبحت تعتبرها مهادنة كثيرا للسلطات وغير قادرة على تمثيلها. كما باتت تميل إلى انتخاب الجهة التي تعدها بإعادة السلطة المفقودة إليها. وهذا ينطوي طبعا على مخاطر محتملة على دولة القانون متى بدا القائد المنتخب مسلحا بشرعية ديمقراطية، في ضرب بعض الحريات الفردية وتدجين مؤسسات مستقلة ومهاجمة الصحافة أو بعض المنظمات غير الحكومية وغير ذلك. وتتهم الأنظمة الغربية بانتظام بولندا والمجر بالالتفاف على الحريات. لكن بعض المحللين يقرأون هذا العطش إلى الإحساس بالسيادة لدى الطبقات الشعبية، كحاجة أعمق لتعزيز الانتماء إلى أمة ومصير مشترك مع نخب تبتغي الفرار إلى أبراج العولمة لتترك هذه الطبقات في عنق الزجاجة. ورأت المحللة الفرنسية كارولين ديلوم أن صعود الشعبويين “يتفق مع رغبة متنامية لدى الشعوب في استعادة طبقاتها القيادية حتى لا تعاود الهرب". وسواء تعلق الأمر بالتربية أو بالعمل أو بالعقار أو بالترفيه أو بالضرائب فإن الكثير من الباحثين يشيرون بأصابع الاتهام إلى انفصال النخب الذي يدمر ما تبقى من التماسك الاجتماعي. واعتبر جيروم فوركي من مؤسسة جان جوريس “أننا إزاء انفصال اجتماعي يشمل قسما من الطبقة العليا للمجتمع” و“هوة لا تزال تتسع” تفصل الميسورين عن باقي الشعب. ويؤكد كريستوف غيلوي أن الطبقات الشعبية تمارس من خلال هذا المد الشعبوي “القوة الناعمة” وتأثيرها على النخب لإجبارها على العودة “إلى حكم يمارسه الشعب” ينبع “من ضرورة إعادة صياغة المجتمع”.

مشاركة :