عندما خرجت طواعية من سوريا قاصداً أوروبا ملجأ نهاية العام قبل الماضي، شعرت بذبحة أيقظت ضميري عند الحدود اللبنانية، بعد أن تجاوزت الحافلة الأمتار الأخيرة من الأراضي السورية، قَلَبتُ دورة حياتي القصيرة بين كفي ثم شَرَعت أفكر في المستقبلين القريب والبعيد. القريب المتجسد بإمكانية رؤية مسقط رأسي كما تركته، والبعيد المتمثل بانتهاء الحرب الطاحنة بسوريا، لكن القدر حاكَ خطة محكمة سعى من خلالها لنفيي عن الأرض، وإهلاك مَن أحب دون أن أراهم. ذلك النفي المختلف عن أصحاب المشاكل السياسية وأعداء الحكام ومجاهري الكره للأنظمة المستبدة؛ لأني أندرج تحت بند الهروب من الوطن. الوطن الذي ضيَّق علينا حتى غدا يسوقنا عنوة للقتال إلى جانب أحد قطبي النزاع، وتناسى أن هناك كثراً يهلعون من الموت ويكرهون القتل ويعيبون سيوفهم حتى إذا ضربت لا تهرق دماً. اليوم على بعد العام والنصف من ذبحة الضمير عند الحدود اللبنانية يُهَجَّر كثيراً من السوريين بعيداً عن أرضهم بعيداً عن بيوتهم يُرحّلون من الجنوب إلى الشمال، من الوسط إلى الشمال، من الشرق إلى الشمال وأحياناً من الشمال إلى الشمال، الشمال الذي قصدت تكراره يكون في أغلب الأحيان مدينة إدلب التي تمت شيطنتها إعلامياً وجُمِعَ فيها كل مناهضي الحكم، الأمر الذي سيعطي من يقصفها الضوء الأخضر من العالم أجمع بحجة وجود ما يسمى (المعارضة الإسلامية المتشددة)، إلا أن نسبة المدنيين هناك ما زالت مرتفعة وخصيصاً بعد عمليات التبادل التي تنجم عن اتفاق قطبي النزاع. هذه الاتفاقات التي يحسب لها في عرقلة عداد الموت عن العمل قليلاً، ويعاب عليها هدفها المتمثل بالتغيير الديموغرافي لتوزع السكان من خلال التهجير الممنهج؛ لأنه لو كانت مصالحات وطنية كما يقال لا يقبل منفذوها دون الصفح عن هؤلاء السكان والسماح لهم بممارسة حياتهم التي اعتادوها فوق أرضهم، لكن الغالبية تفضل الرحيل خوفاً من المستقبل. التهجير الذي يعتبر موت، لكن بربطة عنق يأتيك أنيقاً بعيداً عن الأشلاء والشظايا، يقتلك داخلياً ويهتك روح الحياة الكامنة ضمن أطرافك. ويسرق بيتك، بستانك، أزقة طفولتك، وشتلات اعتاد السوريون زراعتها على شرفات منازلهم تؤنسهم مع فنجان القهوة في الصباح. التهجير سيقتلع آخر مسمار حاولت من خلاله تثبيت لوحة جدارية أنت وباقي أفراد أسرتك في واجهة غرفة معيشتك، ذاك المسمار الذي طرقت إصبعك عدة مرات قبل أن يثقب الحائط، أصحاب الأرض رؤوسهم شبيهة به، إن اقتلعته من مكانه سيبقى أواره لا يدمِل ويصرخ رغم أنف الشقاء لنا ابتسامة، ويضيف أنا المهجر الذي لم يحتفظ بمفتاح منزله؛ لأن الاحتفاظ كلف الفلسطينيين هجرة عمرها يزيد عن الستين عاماً. إلا أن في سوريا لا خوف من احتلال مباشر أو تغيير معالم بل سيكون انتقائياً في خلفاء الزبداني، ومضايا، وكفريا، والفوعة والوعر حتى يسهل حشر المعارضة في بقعة صغيرة، مع إمكانية التمهيد لاستفتاء شبيه لما جرى في لواء الإسكندرون عند تشديد الخناق على قطبي الصراع من المجتمع الدولي، وربما يكون بخصوص سلخ إدلب وبعض من المناطق الأخرى المترامية في البادية وصولاً إلى أجزاء من دير الزور؛ لأن ما يهم الروس هو ضمانهم لقواعدهم البحرية في المتوسط، وما يقلق عليه الإيرانيون المراقد الدينية في أطراف دمشق ويسعون لحمايتها، وما يهم قطر وفدها الدبلوماسي الذي تم تحريره في العراق. مسلسل التهجير أو ما يسمى باتفاقيات تبادل البشر لم ينتهِ بعد، جوبر والقابون وغيرها من المناطق في الغوطة الشرقية ستكون المقابل لما تبقى من أهالي كفريا والفوعة، عندها النار والبارود أو سلخ إدلب من سوريا المستقبلية التي لن يبقى فيها سوريون، لكن دائماً يكون هناك فسحة من الأمل. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :