تستعد مصر للاحتفال بمئوية ميلاد زعيمها الراحل جمال عبدالناصر. الرجل النزيه الذي قفز من عربات الجيش إلى منابر السياسة لم يكن قادرا على كبح جماح أخطائه بالرغم من أنه اعترف ذات مرة بمسؤوليته عن هزيمة، كان من فضائلها أنها أعادت العرب إلى حجمهم الطبيعي الذي لم يغادروه حتى هذه اللحظة. غير أن مصيبة ناصر وهو الأكثر شعبية من كل الزعماء العرب لا تكمن في شخصيته بل في شخصيات أشباهه، المعجبون به والكارهون لظله الذي لم يكن يسمح لهم بالظهور الكامل. لقد وقع الكثيرون في غرامه غير أن الحكام العرب كانوا أسوأ عشاقه في حين كان كارهوه جلهم من المصريين. وهي عقدة تمكنت من حكام مصر من بعده. فناصر الذي سكن الأغاني العظيمة كان أشبه بالضمير المستتر الذي تعود العظمة إليه في كل الأحوال. لم ينسحب ظل ناصر بالرغم من ظهور حافظ الأسد ومعمر القذافي وصدام حسين وهم أشباهه الذين حرص كل واحد منهم على طريقته الخاصة أن يكون وارثه في قومية، لم يكن منظرها ولا القائم عليها ولا الراعي لثوابتها. كانت عزلة ناصر أكبر من قدرته على الانفتاح على العالم. حقيقة مرة غطت عليها صفاته الشخصية في الزعامة المؤثرة التي أهلته لكي يكون رمزا لعلاقة الشعب بالسياسة. وهي علاقة كانت مبنية على خطأ فادح بسبب اعتمادها على العاطفة. في كل خطاباته لم يكن ناصر سياسيا وهو ما أسس لنوع من الخطابة التي تستند إلى التجييش العاطفي. لقد سبقته الجماهير إلى كلماته التي لم تُقل قبله. يعود عبدالناصر من خلال مئويته إلى الواجهة التي لم يغادرها أصلا. فبالرغم من محاولات كارهيه من المصريين ظل عبدالناصر في مكانه رمزا لحلم لم يتحقق. وهو حلم المصريين مجتمعين. لقد كثر الحديث عن أخطاء عبدالناصر غير أن كل تلك الأخطاء لم تحل بينه وبين مكانته التاريخية بطلا قوميا. لم يشهد التاريخ العربي المعاصر سياسيا مسكونا بالعروبة في مستواه وطريقة أدائه. كان هناك دائما ناصريون غير أن الناصرية لم تجد طريقها سالكا بين السلوك الشخصي إلى النظرية الشاملة. فالناصرية لا تعود إلى ما طرحه الزعيم المصري بنفسه بل إلى طريقة فهم الآخرين لظاهرته. وهي ظاهرة إشكالية نظرا لتقاطع البطولة بالهزيمة. ولأن ناصر هو أول مصري يحكم مصر في تاريخ لما بعد عصور الفراعنة، فقد التبس أمره على المصريين بسبب ما انطوت عليه تلك الصفة من قيم وطنية لا علاقة لها بالسياسة. أحب الكثيرون ناصر لأنه أبنهم، القادم من رحم الأمة. أما بالنسبة للعرب فقد كان ناصر صورة للأمل المدوي بعد قرون من الصمت في ظل تراجع عربي لم تكن مصر جزءا منه غير أنها ساهمت فيه من خلال انكفائها على نفسها. أحيا جمال عبدالناصر المعادلة التي تقوم على عروبة مصر ودورها الريادي في العالم العربي. وهو ما صنع من منافسي مصر على ذلك الدور أعداء له، أتعبوه أكثر من أعدائه الحقيقيين. أعاد عبدالناصر مصر إلى العرب وهو ما شكل صدمة للغرب الذي كان يخطط لبناء شرق أوسط تكون إسرائيل جزءا منه، بل الجزء الذي تصدر منه حيويته. فكان لابد أن يُهزم المشروع الناصري من الداخل المصري الذي استطاع عبد الناصر أن يغطي على هشاشته بصفاته الشخصية. ما يجب الاعتراف به أن عبدالناصر مات مهزوما، غير أن هزيمته لم تنزع عنه هالة البطل القومي الذي حاول أن يستجيب لحقيقة أن مصر هي قدر العرب. إن نهضت مصر ينهض العرب وإن تراجعت فعلى العرب السلام وهو ما نعيشه اليوم. لذلك فإن الاحتفال بمئوية عبدالناصر خارج ما ينطوي عليه من استعراضات مجانية هو في حقيقته محاولة لبث الروح الحية في الجسد المصري الذي أخذ العالم العربي معه إلى غرفة الإنعاش. فاروق يوسف
مشاركة :