إيفي بريست هي أخت ألمانية لإيما بوفاري... أو هما شبيهتان على الأقل، وليس فقط لأن الحرفين الأولين من اسم الفرنسية هما الحرفان الأولان نفسهما من اسم الألمانية، وليس فقط لأن صديقاً للأولى يمتلك صيدلية مثلما هي الحال مع الثانية، بحيث إن الصيدلية تلعب دوراً لا بأس به في حياة المرأتين... بل أكثر من هذا، لأن الحياة العاطفية لإيفي وإيما هي نفسها تقريباً، إلى درجة أن في إمكان باحث منقّب في كل من الشخصيتين أن يقول إن ما قد يبدو غامضاً في دوافع إيما، يمكن العثور عليه واضحاً في دوافع إيفي. ولكن مع فارق أساسي يكمن في أن ما هو درامي بل تراجيدي في شخصية إيما بوفاري وحياتها العاطفية والعلاقة التي تبنيها، يصبح ميلودرامياً لدى إيفي بريست. من هنا، لم يكن غريباً أن يقدم مخرج الميلودراما الألماني الأكبر خلال الربع الثالث من القرن العشرين فاسبندر على اقتباس الحكاية التي تحكي حياة إيفي بريست في واحد من أجمل أفلامه وعنوانه بالتحديد «إيفي بريست» وذلك عن رواية الكاتب ثيودور فونتاني... وهي رواية تحمل الاسم نفسه وتعتبر من روائع القطع الأدبية الألمانية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما أنها تعتبر من أجمل أعمال فونتاني نفسه، إذ يقول كاتبو سيرته إنه كتبها في مرحلة متأخرة من حياته، وغلب فيها الصمت على الكلام والتعبير عن العواطف بواسطة النظرات وشتى ضروب التأمل، أكثر من التعبير عنها بواسطة الحوارات أو التصرفات غير المحسوبة. ومع هذا ثمة في الرواية الكثير من المواقف التي تستدعي مثل تلك التصرفات، كما أن فيها من تشابك العلاقات ما كان يحتاج في حقيقة أمره إلى حوارات طويلة تفسيرية لا تنتهي. بيد أن فونتاني فضل سلوك سبيل أهدأ وأكثر حكمة إذ كان هو، حينما كتبها، تقدّم في العمر إلى حد يسمح له بالتعبير عن أصعب المواقف بلغة هادئة رصينة. ولعل هذا ما أضفى على الرواية رونقاً لا يزال لها حتى اليوم، ويجعلها مقروءة في زماننا هذا كما كانت تُقرأ قبل قرن وثلث القرن... > مهما يكن من أمر فلا بد منذ البداية هنا من إشارة تفرض نفسها وتبدو لنا أساسية طالما أننا بدأنا الحديث عن تشابه بين شخصيتين أدبيتين وهي أن موضوع رواية «إيفي بريست» يشبه إلى حد ما موضوع رواية «مدام بوفاري» لفلوبير، ويمت بصلة قوية إلى بعض أقوى مواضيع روايات جين أوستن والأخوات برونتي... وهو موضوع يتزاوج فيه الغرام بالأوضاع الاجتماعية والمواثيق الأخلاقية التي غالباً ما تكون العقبة الأساسية في وجه نمو الغرام. ناهيك بأن في ثنايا الرواية نظرة على بعض تأثيرات التغيرات الطبقية التي كانت ألمانيا ميدانها في ذلك الحين (أواسط القرن التاسع عشر)، تماماً كما الحال بالنسبة إلى علاقة «مدام بوفاري» بالمجتمع الفرنسي في الزمن الذي ظهرت فيه. > بطلة الرواية هي إيفي بريست، إذاً، الصبية الحسناء التي تكون، بعد، في السابعة عشرة من عمرها حين تُزوّج إلى البارون إنستيتين الذي يكبرها سناً بسنوات كثيرة... غير أن هذا البارون لم يكن غريباً عن أسرة الفتاة، وتحديداً عن أمها، إذ قبل سنوات كثيرة وحين كانت والدة إيفي لا تزال شابة عزباء، كان البارون لا يزال ضابطاً شاباً وسيماً، وشاهدها مرة فأعجب بها وطلبها للزواج فصدّ إذ فضلت الحسناء عليه، شاباً آخر وقعت في هواه هو السيد بريست الذي أنجبت إيفي منه. لاحقاً يزور إنستيتين بيت محبوبته القديمة وكان ترك الجيش وصار مسؤولاً بلدياً في مدينة بومورانيا... وخلال هذه الزيارة الجديدة يرى البارون الصبية إيفي، فيغرم بها ويطلبها للزواج كما كان فعل مع أمها من قبل. وهذه المرة تقبل إيفي التي أصلاً لا تعرف شيئاً عن الحياة العاطفية ولا عن الزواج... والتي لم تكن سوى ملاك خير طيّب يحب الناس والحياة والطبيعة. هكذا، تصبح إيفي زوجة إنستيتين وتنتقل لتعيش معه في مدينته راضخة من دون تذمر لتبعات الحياة الزوجية. ولكن، قبل الوصول إلى تلك المدينة المملة والضائعة على ساحل البلطيق، كان البارون اصطحب زوجته الشابة في جولة إلى إيطاليا أرهقها خلالها بزيارة المتاحف والجولات الثقافية، ما أهّلها لنشدان وحدة وهدوء تمتعت بهما أول الأمر حين استقرت في بيت الزوجية، حيث راحت تتقاسم وقتها مع مربية قاسية وكلب أليف وصديق صيدلاني. وكان يمكن تلك الحياة أن تمتد إلى الأبد، لولا أن إيفي بدأت تشعر بالضجر، خصوصاً بعد أن أنجبت ابنة، وسط مجتمع محافظ قليل الكلام شديد الرصد لحياة الآخرين، ولولا أن القدر ألقى في طريق المرأة الشابة ضابطاً شاباً حسن المظهر هو فون كرامباس، الذي يعيش متأرجحاً بين زوجة عجوز غيورة، ووضع مالي مزر، ومغامرات نسائية لا ترويه. هكذا، يحدث ما كان لا بد من حدوثه إذ ما إن يظهر هذا الضابط ويلتقي بإيفي حتى يبدأ بمغازلتها... مواصلاً مساعيه حتى اللحظة التي تقع هي فيها، في شباكه، إذ إن غياب زوجها المتكرر لبعض شؤونه يسهل لها الأمر. لكن إيفي لم ترتح إلى تلك العلاقة بل تشعر إزاءها بالذنب والخطيئة، من دون أن تعرف سبيلاً إلى الخلاص. ثم يأتي الخلاص حين يُنقل زوجها إلى برلين حيث يصبح وزيراً في حكومة بسمارك فتنتقل معه مبتعدة عن ميدان حبها الكبير. فهل تنتهي الأمور على ذلك الحال؟ > أبداً... إذ بعد سنوات عدة من العيش الهادئ - وإن يكن وسط عذاب الذكريات - يصل إلى يدي البارون الزوج جملة بطاقات كان كرامباس يبعث بها إلى إيفي متضمنة آحرّ آيات الغرام. صحيح أن تأريخ تلك البطاقات قديم، لكن هذا لم يمنع إنستيتين من الشعور بالمهانة وبحدّة خيانة زوجته له. وهكذا، على رغم نصائح صديق له بدفن الأمر كله في مقبرة الصمت طالما أن الزمن مرّ عليه، يقرر البارون الانتقام لشرفه، وهكذا يوصل الأمر حد خوض مبارزة تنتهي بمقتل كرامباس الذي تظل أسرته في بؤس من بعده، ما يثقل على ضمير إيفي التي ينفجر كل ذلك في داخلها. وكأن هذا كله لا يكفيها، فإذا بها - في مشاهد تليق بعمل ميلودرامي يحمل توقيع ستيفان تسفايغ، مثلاً - تُطرد من جانب أمها، وتُطرد كذلك من زوجها وتكاد تصبح شريدة آفاق على الطرقات، لولا والدها الذي يفتح لها قلبه وباب بيته العتيق، فتلجه عائدة إلى ملاعب طفولتها وإلى الطبيعة التي طالما كانت رفيقتها في صباها. هكذا، تخلد إيفي بريست إلى شيء من الهدوء وراحة البال، وتتصالح مع ذاتها إذ تشعر أخيراً بأنها أضحت حرة خارج نطاق أي التزام... بل حتى خارج نطاق أي ندم، ما يشعرها كذلك بأنها متصالحة حتى مع العالم. والحال أن ذلك الشعور هو الذي يبدو مهيمناً عليها حين تلفظ الروح في الفصل الأخير من الرواية وهي واثقة من أنها إنما عاشت حياتها كلها متهمة بريئة... وإنها إنما كانت مجرد دمية في يد الأقدار... > كتب ثيودور فونتاني رواية «إيفي بريست» في عام 1894 - 1895، لتكون أحد آخر أعماله، إذ إنه رحل بعد نشرها في ذلك العام، بأعوام قليلة (1898) في برلين، هو الذي كان ولد عام 1819 في توبروبيت. ومن المعروف أن فونتاني ألماني من أصول بروتستانتية فرنسية. وهو كان صيدلياً في أوائل شبابه... وحين استقر في برلين بدأ توجهه إلى الأدب والصحافة (عمل مراسلاً صحافياً في لندن بين 1855 و1858، كما عمل مراسلا حربيا). وهو إذ انصرف إلى النقد المسرحي بعد ذلك، لم يبدأ الكتابة الأدبية إلا في عام 1870. ومن أشهر أعماله: «قبل العاصفة» و «رحلة في براندنبرغ» و «الشتشلين» إضافة إلى سيرته الذاتية التي صدرت عام 1898. alariss@alhayat.com
مشاركة :