ستيفان زفايغ يسبر في الخوف أغوار النفس البشريةما من نص للنمساوي ستيفان زفايغ إلا وحوّله فنانون عالميون من بعده إلى المسرح أو التلفزيون أو السينما، ذلك أنه استطاع في شتى أعماله أن يصور بدقة طبيعة الإنسان في انتصاره وانكساره بأسلوب فني يغلب عليه التشويق، وينفذ إلى أعماق النفس يسبر أغوارها، ويتلمس همومها ومفازعها، على غرار “الخوف” التي تعرض حاليا في مسرح “ميشيل” بباريس.العرب أبو بكر العيادي [نُشر في 2017/05/08، العدد: 10626، ص(16)]الإنكار أشد وطأة من الاعتراف والعقاب “الخوف” عنوان قصة كتبها النمساوي ستيفان زفايغ عام 1913 بصيغتين، نشرت في صيغتها الطويلة ضمن كتاب مستقل عام 1920 ببرلين، ثم نشرت في صيغة أقصر عام 1925 بليبزيغ، قبل أن تنشر عام 1936 ضمن مجموعة عنوانها “مِشكال”، حوّلها إلى السينما مخرجون عالميون أمثال هانس ستاينهوف، وفيكتور تورجانسكي، وخاصة روبرتو روسيلّني في شريط تقمصت دور البطولة فيه إنغريد بيرغمان إلى جانب ماتياس فيمان، وإديت شولتز فيستروم وكلاوس كينسكي، وبني على طريقة أفلام هيتشكوك، من جهة التشويق، والشعور بالرعب من شيء غامض لا نعرف مأتاه، أو لا نملك لصدّه حيلة، ولا يتنفس المشاهد الصعداء إلا لحظة الانفراج. والقصة نفسها حوّلتها مؤخرا المخرجة الفرنسية إيلودي مينان إلى مسرحية تعرض حاليا في مسرح “ميشيل” الباريسي. الحكاية بسيطة ولكن زفايغ، بما له من قدرة على سبر أعماق النفس الإنسانية، جعلها عملا يقطع الأنفاس، فيلهث القارئ والمشاهد والمتفرج مع البطلة، الساعية إلى حلّ يتمنّع عليها، حتى صارت كالسائرة إلى حتفها بظلفها، منساقة وراء قدر غامض لا تعلم من سطّره إلا حينما أشفت على وضع حدّ لحياتها اتّقاءَ الفضيحة والعار. هي حكاية إيرين ربة البيت الأرستقراطية، التي ملّت رتابة الحياة الزوجية مع والد طفليها فريتز المحامي الناجح، فرامت المغامرة مع موسيقي شابّ، جعلت تتردد عليه في شقته المتواضعة، حتى صادفتها ذات يوم، وهي تغادر بيت عشيقها، امرأة بشعة اتّهمتها بانتزاع رجُلها منها. واستدلت المرأة إلى هوية إيرين وعنوانها، وصارت تداوم ابتزازها، وتهدّدها بفضح خيانتها لدى زوجها، إلى أن انتزعت منها خاتم الخطوبة، وكان الزوج، بعد أن لاحظ عليها تغير سلوكها وعاداتها، وكثرة انزوائها وصمتها، لا ينفك يذكر لها أمثلة من تجربته الميدانية عن دور الاعتراف في تخفيف الأعباء التي ترزح تحتها النفوس والأجساد. يقول لها “أعرف هذا من المحكمة ومن التحقيقات، أن يخفي المرء، ويعرّض نفسه للانكشاف، ويتعرّض لفظاعة الدفاع مرغما عن كذبة ضدّ ألف هجوم مقنّع، ذلك ما يعذّب المتهمين أكثر من سواه، من المرعب أن نرى في بعض الحالات أن القاضي كان قد أمسك بكل شيء: الجريمة، الدليل، وربما الحكم نفسه، لا ينقصه سوى الاعتراف المعطّل بداخل المتهم لا يريد النفاذ، رغم كل المناورات”.في قصة "الخوف" التي حولتها مينان إلى مسرحية يعالج زفايغ ثيماته الأثيرة كالاعتراف والخوف من الفضيحة ويقول أيضا وهو يغريها بالثقة فيه والاعتراف بما يقضّ مضجعها “فظيع أن نرى متَّهَما يتلوى في شتى الاتجاهات لاعتقاده أنه ينبغي كيّ جسده المتمرد لانتزاع نطقه بـ”نعم”. أحيانا يكون الاعتراف في حلقه، يكاد يخنقه، قوة لا تقاوم تريد إخراجه، ويكاد يتحول إلى كلمات، عندئذ تهاجم المتهمين تلك القوةُ الشريرة، ويتحوّل ذلك الشعور الغامض إلى عناد وخوف، فيبتلعونه. ويعود الصراع إلى نقطة البدء. ويتعذب القضاة من ذلك أكثر من الضحايا. ورغم ذلك، يعتبر المتهمون دائما عدوًّا لهم ذلك الذي هو في الحقيقة سندهم الوحيد… أنا أشفق عليهم لأنهم يتعذبون من الإنكار أكثر مما يتعذبون من الاعتراف والعقاب”. ويضيف في تأنيب مقنّع، يجعلها تشعر أنه يعرف سرّها “في الحقيقة، لا أستطيع أن أفهم أن بإمكاننا القيام بفعل ونحن واعون بالخطر، ثم لا نجد الشجاعة للاعتراف به، ذلك الخوف البائس من الكلام، هو في رأيي أكثر مدعاة للرثاء من أي جريمة”. فلا تملك إلا أن تقول، وهي حائرة بين التكتم على أمرها، والاعتراف بإثمها “هل تعتقد… أن الخوف وحده… هو الذي يوقف الناس؟ ألا يكون، ألا يمكن أن يكون الخجل… الخجل من أن يفتح المرء قلبه… أن يتعرى أمام الجميع؟”. كانت تودّ أن تقرّ له بذنبها، وتشرح له أنها ما خانته إلا عبثا وغواية، وأنها تحبّه هو وتريد أن تحافظ على أسرتها وطفليها، ولكن عوامل كثيرة كانت تمنعها، أهمها الفضيحة التي سوف تلطخ سمعتها حيثما ولّت وجهها، لذلك، حاولت استرجاع الخاتم، ولما فشلت في الوصول إلى المرأة المبتزة، فكرت في الانتحار. وعندما كانت في الصيدلية تنتظر قنينة فَليوم كانت مدونة في وصفة طبية سابقة، ظهر زوجها لينقذها مما تنوي القيام به، ويعترف لها بأن كل ما حصل كان من تدبيره، وأن المرأة المبتزة هي في الحقيقة ممثلة عاطلة عن العمل استأجرها للقيام بهذا الدور. في قصة الانطلاق، يعالج زفايغ ثيماته الأثيرة كالاعتراف بالذنب (كركيزة من ركائز المسيحية) والخوف من الفضيحة، ولا سيما الانتحار الذي كان يراوده حتى انتهى إليه في منفاه البرازيلي عام 1942. وقدّم كل ذلك في نسق لاهث متوتر، لا يمنع القارئ من التعرّف على أدق خصائص الشخصيات، غير أن المخرجة الفرنسية إيلودي مينان، بتركيزها على شخصية المرأة المبتزة لخلق مناخ مثير للقلق، نأت عن كل ذلك وحوّلت النص إلى ما يشبه الفودفيل، فأفقدته عمقه.
مشاركة :