لا يمكن لأي اتفاق أن يكون بديلا عن الحل السياسي المتمثل ببدء عملية انتقالية في سوريا، كما جاء في بيان جنيف 1 وقرارات مجلس الأمن الدولي التي تضع سوريا على سكة التحول نحو دولة مؤسسات وقانون.العرب ماجد كيالي [نُشر في 2017/05/08، العدد: 10626، ص(8)] بداية لا يمكن لعاقل أن يرفض أي محاولة من أي جهة أتت لوقف المقتلة السورية ووضع حد للقصف الجوي والمدفعي بالبراميل المتفجّرة والصواريخ الفراغية والارتجاجية وبالكيمياوي ورفع الحصار عن مئات الآلاف من المدنيين، وإنهاء الكارثة السورية التي تسبّبت حتى الآن بمصرع أكثر من نصف مليون من السوريين. والقصد هنا أن معظم السوريين، ولا سيما كيانات المعارضة الوطنية بما تمثله وبما لها وما عليها، هم أصحاب المصلحة الحقيقية بوقف إطلاق النار، كونهم يدفعون ثمنا باهظا جراء استمرار القصف لأن الجهات التي تملك قوة النيران والقدرة على القصف الجوي والصاروخي هي النظام والطيران الروسي وقوات الحرس الثوري الإيراني والميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية التي تتبعها. هكذا، يفهم مما تقدم أن طرح الأمر كأنه يتعلق بطرفين متساويين، أي النظام والمعارضة، على نحو ما حاول الاتفاق الروسي الإيراني التركي أن يصور، غير صحيح البتة، وهو ينطوي على مخاتلة وتورية ومساواة بين غير متساوين مع معرفتنا بمحدودية قدرات المعارضة في التسلح والذخيرة والأعداد بالقياس مع الأسلحة التي يمتلكها الجيش النظامي المدعوم بسلاح الجو الروسي. بيد أن مناقشة الاتفاق المذكور، الذي تم توقيعه من الدول الضامنة الثلاث، روسيا وإيران وتركيا في أستانة (عاصمة كازاخستان) مؤخرا، تطرح عدة تساؤلات وتثير عدة التباسات. فمثلا كيف تحولت روسيا وإيران فجأة من الرفض المطلق لفكرة إيجاد مناطق آمنة أو مناطق حظر جوي في سوريا إلى القبول بهذه الفكرة ولو بصيغة ملتوية تمت تسميتها بـ“مناطق منخفضة التصعيد”؟ وكما نلاحظ فإن هذا السؤال ينطوي على التشكيك بدوافع هذا الاتفاق الذي بادرت روسيا إلى طرحه وتحمّست إيران له، علما وأن تركيا كانت طرحته منذ سنوات لكنها لقيت معارضة مطلقة من الدولتين المذكورتين. وفي الواقع فإن هذا التحول في موقفي روسيا وإيران من فكرة “المناطق الآمنة” ينطوي على مناورة، أو يأتي بمثابة خطوة استباقية، على الأرجح، لقطع أي محاولة دولية وبخاصة من قبل الولايات المتحدة لفرض مناطق آمنة في سوريا، وهو ما بات في مرحلة إنضاج لدى صانع القرار الأميركي، بحسب تصريحات أدلى بها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب وأركان إدارته، والتي أعادت، أيضا، فتح ملف الرئيس بشار الأسد على طاولة البحث مع التركيز على استهداف إيران لتحجيمها ووضع حد لنفوذها في المنطقة. وعلى ما يبدو فإن تلك التصريحات، التي تم تدعيمها بقصف مطار الشعيرات وتعزيز التواجد العسكري الأميركي في شمالي وشرق سوريا، بعثت رسالة إلى المعنيين (النظام وروسيا وإيران) مفادها أن الصبر الأميركي آيل للنفاد، وأنه لذلك يجب تغيير المعادلات الصراعية الجارية بما يسمح ربما بإعادة تعويم النظام مستقبلا؛ ولعل هذا ما يفسر ابتداع مصطلح “خفض التصعيد”. المشكلة في هذا الاتفاق أيضا أن الحديث يدور عن دولتين ضامنتين هما روسيا وإيران، علما وأنهما دولتان منخرطتان مباشرة في الصراع السوري في قتل السوريين وتدمير عمرانهم، وفي دعم النظام بشكل غير محدود، إذ مع كل ملاحظاتنا على سياسة تركيا إزاء سوريا، إلا أن تدخلها في سوريا لا يزال محدودا في حجمه وفي اقتصاره على المناطق المحاذية لحدودها. والمعنى أن روسيا مطالبة، قبلا، بوقف قصفها للمناطق المدنية ووقف دعمها العسكري للنظام للضغط عليه لوقف القصف الجوي، كما أنها مطالبة بوقف استخدامها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لحماية النظام كما لعرقلة أي جهد دولي لوقف المأساة السورية التي تسبب بها. أما في ما يخص إيران، التي باتت أكثر تماهيا مع النظام الاستبدادي في سوريا، فهي مطالبة بوضع حد لأعمال القتل والتدمير والحصار والتشريد، مباشرة وعبر ميليشياتها الإرهابية الطائفية، ولعل هذا ما يفسّر موقف المعارضة الرافض لأي اتفاق يضمن اعتبار إيران كطرف ضامن، لأنها معنية ببقاء الأسد لضمان مصالحها وضمان تعزّز مشروعها الإمبراطوري من طهران إلى لبنان. مشكلة أخرى يطرحها الاتفاق، وهي تتعلق باقتصاره على مناطق معيّنة، بما يترك سوريا كلها تحت إرادته وبما يبرر له ولحلفائه استهداف المناطق الشعبية التي لا تخضع لسيطرته، بدعوى وجود داعش أو هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا)، فضلا عن أن ما حصل يثير شبهة تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ. ويستنتج من ذلك أن أي اتفاق يفترض أن يشمل كل المناطق وكل الأعمال القتالية، وأن يشمل فعليا توقف النظام وروسيا وإيران (وجماعاتها) عن القصف والأعمال القتالية، وأن يشتغل على أساس تأكيد وحدة سوريا، أرضا وشعبا، لأن ذلك كله هو الذي يضفي صدقية على الاتفاق الموقع؛ وبديهي أن كل ذلك يفترض إخراج أو عزل كل الميليشيات الإرهابية والأجنبية من سوريا. أخيرا لا يمكن لأي اتفاق أن يكون بديلا عن الحل السياسي المتمثل ببدء عملية انتقالية في سوريا، كما جاء في بيان جنيف 1 وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة التي تفضي إلى إنهاء حكم نظام الأسد الاستبدادي الوراثي وتضع سوريا على سكة التحوّل نحو دولة مؤسسات وقانون، دولة لمواطنين أحرار ومتساوين. دولة ديمقراطية ومدنية لا دينية ولا طائفية ولا عسكرية ولا إثنية. ليس لنا مع كل هذه المحاذير إلا أن نأمل في وقف المقتلة السورية الآن قبل الغد. كاتب سياسي فلسطينيماجد كيالي
مشاركة :