قطع متحف لوفر- لانس منذ سنوات عهداً بإقامة أول معرض استعادي بانورامي للإخوة المعلمين الثلاثة «لونان»، هم الذين طبعوا تصوير القرن السابع عشر في باريس بأصالة تكويناتهم. وهم: أنطوان (البكر أو أكبرهم وأشدهم موهبة في فرشاة تفاصيله المنمنمة الدقيقة، مثل الألبسة والدانتيل والقبات الحريرية المزركشة أو العقود وسواها). أما الثاني فهو لويس والثالث ماتيو. يؤكد مفوض أو كوميسير المعرض المعروف بأصله السلافي وهو نيكولا ميلو فانوفيك أنه وعلى رغم أنهم يوقعون لوحاتهم باسم العائلة المفردة لونان (أي القزم) فكلما تقدم بهم العمر كان أسلوب كل منهم يتمايز عن أخويه. أحد أسباب غموض سيرتهم أن مؤرخي الفن كانوا يظنونهم فناناً واحداً. ها هو المتحف المذكور يحقق وعده بمعرض بليغ الاختيار. يعانق 55 لوحة (من أصل سبعين) مختارة من أشهر اللوحات. فهو معرض نوعي يؤكد الخصائص الفنية وليس الكمية. يكشف المعرض السر الثاني مجيباً على سؤال محير: كيف ظهر هؤلاء فجأة من دون سابق معرفة، ليحتكروا أغلب الطلبات والتعهدات الملكية والكنسية. كانوا يقارعون أشهر الأسماء مثل بلانشار وشامبينغ، وحتى سيمون فوي بعد عودته الدراسية المنتصرة من روما (عصر النهضة) حاملاً معه تقاليد الظل والنور وفق أسلوب كارافاجيو؟ يكتنف الغموض أيضاً موقع التحصيل الدراسي للفنانين «لونان»، فمنهج تقسيم الظل والنور ينتمي نسبياً إلى أسلوب كارافاجيو، وهذا ليس أكيداً، يكفي أن يطلعوا على بعض لوحاته من دون عناء السفر إلى روما، فتأثير منهجه كان عاماً في تلك الفترة يصل حتى جورج دولاتور وبعض فناني الروكوكو. يجيب المعرض تاريخياً على هذا السؤال بعد سيطرة الملك لويس الثالث عشر على أوروبا وإيقاف قسراً الحروب الدينية في فرنسا. وإصدار عفو عام ابتداءً من عام 1629 وبداية الاستقرار مما يبرر قدوم الإخوة لونان إلى باريس (من أين لا أحد يعرف؟). وتشجيع الملك لهم وحمايتهم، وتوصية بابوات الإكليروس الكنسي بشراء أعمالهم أو بالأحرى تكليفهم بتعهدات طويلة الأمد. يؤكد المعرض انعكاس التحول الاجتماعي الأخلاقي داخل تكوينات اللوحات المعروضة. هي التي تمثل غالباً شرائح عائلية من المجتمع المسالم، المتواضع الرهيف في محبته للموسيقى والعزف على الوتريات القديمة. واحدة من اللوحات الشهيرة (لأنطوان غالباً) تمثل طفلة من صغار الفلاحين تعزف بحميمية رومانسية على مزمار قديم تؤكد اللوحة بعكس بقية التجمعات على بورتريه هذه العازفة الفتية. يحضرنا في هذا التداعي احتكار ثلاثي «لونان» لتصاوير وجوه (البورتريه النصفي) بخاصة لرؤوس أعضاء العائلة المالكة أو رجال الكنيسة الكبار. تؤكد أغلب اللوحات وشروحات العرض أنه وابتداء من 1630 أصبح التسامح والحنو والشفقة ودعم الضعفاء والفقراء، موضوع اللوحات، بديلاً عن همجية الحروب. نلاحظ هذه المواصفات داخل تكوينات اللوحات المعروضة التي تمثل لقطات من تجمعات الحياة العائلية اليومية. هي التي تجمع المعدمين والمشردين الذين هدهم شظف العيش القاهر، والجوع والمرض، ووعورة تحصيل لقمة العيش. في كل مرة نعثر فيها على صورة السيد المسيح نجده مطوقاً بهؤلاء المستضعفين. مما يرسّخ روح التعاطف والتعاضد والمشاركة الإنسانية في الملمات. تكشف هذه اللوحات تواضع الوجبات الغذائية اليومية وضنك العيش والعوز الظاهر، وبالعكس فإن التعلق بالآلات الموسيقية وطمأنينة الحيوانات الأليفة تشيع سعادة غامضة، وعلى الأخص في اللوحات التي تقتصر (استثنائياً) على مجتمع الطفولة ومنها عازفة المزمار التي مر ذكرها. لعل أبرز ما يكشفه كوميسير المعرض بأن تصاوير الثلاثي لونان التي أهملت عقوداً من الزمان تعتبر من أشد الكنوز أصالة تصويرية، تتصل بحميمية الثقافة الفرنسية العريقة. وأن عدم إعطاء هذه اللوحات حقها يرجع إلى هوس الفرنسيين بالثقافة التشكيلية الإيطالية الموروثة عن استقرار ليوناردو فينشي في بلاط الملك فرانسوا الأول حتى توفي مخلفاً أعظم موروثاته للثقافة الفرنسية وهي لوحة «الجوكندة». من هنا نعثر على تعلق بونابرت الأول بالفن الإيطالي واستقدام النحات كانوفا، ثم أصبحت «الطلينة» تقليداً ملكياً مع نابليون الثالث الذي جعل من باريس روما جديدة بإعادة تخطيطها التنظيمي ما بين قوس النصر في حي الشانزيلزيه، وحي الباستيل مرورا بهرم اللوفر، وفق خط واحد يشق العاصمة بهدف التوأمة مع روما. افتتح المعرض في آذار (مارس) مستمراً حتى أواخر حزيران (يونيو) تحت عنوان «أسرار لونان».
مشاركة :