إن الخلط بين مستويين ينتج عنه خلل في التحليل والتعبير، فالوعي وماهية الإنسان، بحث موضوعي بين حركة الرغبة، وحركة الأفكار، وتجسيد العلاقة بين المنهج الحقيقي للذهن، والطاقة الجوهرية، والصور التي يختزنها، والمعلومات المكتسبة التي تُنقل له عبر شفرات يتلقاها من محور الواقع، فمهما تعدد السياق والتأويل الدلالي، فإن الأوامر الموجهة لحركة الجسم نتيجة إشارة لملايين من الألياف العصبية المجهرية، إلى جميع أنحاء الجسم. فيما وجه جون لوك رسالة إلى العقل البشري قائلاً: (لنفرض أن العقل عبارة عن صفحة بيضاء خالية من أية كتابة وأي معنى، إذ يظهر لي أن كل الأفكار الراقية الجميلة التي تفوق السحاب رفعة وتعلو علو السماء إنما أصلها الحواس، يسبح العقل مسافات بعيدة، ويفكر ويتأمل تأملات أيضا رفيعة، وهو في كل هذا لا يخرج قيد ذرة عما أمدته به الحواس أو التأمل). والخلاصة هنا أن العقل يسبح في المحيط الذي يعيش داخله، والقانون الذي يهتدي به، فإذا كان العنف والتشدد والتطرف واتجاهات متنافرة بين أفراد المجتمع، ينعكس على تصرفهم العام، فالموجودات تلك يستقبلها العقل وترسخ في أركانه ويصعب تغيير اللبنة الأولى، التي تعرف عليها قبل غيرها من المعلومات واستعملها قبل أن يبحث عن صلاحها من فسادها. فالنزعة الإنسانية انتقال من الظلام إلى النور، من الأغلال إلى حرية الفكر والكلمة، من الطاعة العمياء إلى غايات نبيلة، فالانسياق خلف تيارات معقدة، يترك شوائب في الأذهان، ومقاصد غير نقية، تنم عن فكر مشوش يقود إلى عالم مليء بالألغاز. ويحق لنا أن نتساءل عن وجاهة الحياة المثالية، إذا كانت الأخلاق تهتم بالكشف عن حقيقة التربية في السلوك الإنساني التي لها علاقة وثيقة بالذات واستجلاء العواطف، وإدراك الرغبات المحرضة على التمثلات الخيالية، والابتهاج والتصور الملائم لمعطيات الحياة المتزنة السوية، التي تحكم الانفعالات والصراعات، وتعمل بجدية متناهية لإصلاح الأهواء التي تنبثق منها العدوانية إن الغرض من اقتفاء خطوات متناسقة تصحح الأخطاء، والبعثرة التي وقع المجتمع ضحيتها، إما للجهل أو للتخلف أو للأنانية، أو للتبعية، أو للبؤس الذي لازم الناس من جراء الفقر والانغلاق في حقب زمنية ماضية، مما أدى إلى جيل يحمل في أعماقه عداء غير مبرر، وقناعات في عمقها سلبية، كونت أجيالاً تحمل رسائل مدججة بالإرهاب، والانتقام، وتتبنى مشروعاً موروثاً غير قابل للتجديد. لقد كبدتنا تلك الصور القاتمة خسائر فادحة، في سلامة العقول والأهداف، والمعتقدات، مما أوجد حواجز وعراقيل تمنع بلوغ الغايات النبيلة، وتسخر المقاصد لخدمة قضايا تناقض الطبيعة الإنسانية، وتزج بآمالها في ساحة صراع لا ينتهي باسم الدين. وهذا الانعكاس الذي أوجد الاختلاف والجدل، وغشى تلك الصفحة البيضاء السواد، وعجز الفرد عن المعرفة الصحيحة بين الاختيار والإرادة، وسبات الوعي، وزعزعت العلاقة التي تربط بين الدين والعلم، فالدين هو الخير الأعظم للإنسان، ولولا العلم لما علم الناس معنى الدين والتدين، وقوله تعالى "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ" سورة الزمر، فكيف لحامل شهادة عليا يطالب بحجب قوقل وهو نتيجة اختراع علمي تقني فتح مجالات عديدة للعلم والعالم، وثمة أعداد أخرى تسير على نهج منغلق تقف على منابر الجامعات، تحاضر في حضرة الآلاف من الطلبة، وتملأ رؤوسهم بالعلوم، ثم تجاهر بحز رأس فلان وفلان، فالسؤال هنا من منظور مزدوج ومتعاكس لماذا إذن، لا يوجد إرهاب وشباب في مقتبل أعمارهم يهربون من أهليهم ليقاتلوا دون وعي، ويُقتلون؟
مشاركة :