تسلط بعض الدراسات الإنسانية الضوء على قضايا مهمة قد تتوارى عن الاهتمام الى ان تطل بوجه قبيح بعد أن تستفحل. ومن هذه الدراسات الدراسة التي أجراها الزميل الدكتور صالح الرميح ونشرها مركز الدراسات والبحوث بكلية الملك فهد الأمنية حول السلوك العدواني لدى طلاب المدارس الثانوية. وتزامن صدور هذه الدراسة مع ما انتشر من مقاطع في شبكات التواصل الاجتماعي ونقلتها بعض وسائل الإعلام، وتمثلت المقاطع في تكسير نوافذ مدارس وتمزيق كتب في الشارع وسبقتها مناظر لا تسر عند افتتاح ملعب الدرة في جدة. أثارت تلك الصور طبيعة السلوك الذي ينتجه العقل الجمعي المبني على الاستعراض أمام جمهور من الشباب. وقد أشارت الدراسة بوضوح إلى نقطتين مهمتين أولاهما أن السلوك العدواني يرتبط بشكل اكبر بالأماكن التي يحدث فيها الاحتكاك والمشاجرة والمنافسات والمعاكسات مثل المباريات والمناسبات وحتى الخروج من المدارس خاصة وقت الامتحانات. والنقطة الثانية أن السلوك العدواني يزداد في المدن أكثر من الأرياف. وفي جانب ثانوي هناك محاولة لربط المعدل الدراسي الضعيف بالسلوك العدواني الاستعراضي. السؤال المهم هنا هو أن مثل هذه الدراسات الفردية تحتاج إلى دعم حقيقي ليصبح لدينا الكثير من الأبحاث والدراسات الإنسانية الممتدة والتتبعية، فمهما صرفنا على الأبحاث الإنسانية المؤسسية فهي محاولة لسد نقص كبير في هذا الجانب الذي أهملناه إلى حد ما ولسنوات طويلة. ولو تتبعنا ما تصرفه الدول التي بدأ مثل تلك السلوكيات العدوانية لدى طلابها لوجدنا أنها لم تقتصر على الأبحاث الوصفية للظاهرة فقط، وإنما امتدت إلى جانبين آخرين على نفس القدر من الأهمية وهما الجانب التفسيري للظاهرة، والجانب النقدي لمسببات نشوئها. وهناك جوانب بحثية أخرى تقود إلى مسعى في المعالجة ومنها الدراسات التجريبية والاستشرافية ودراسات خلق الفرص والبدائل. ولو وقفنا قليلا فقط عند خلق الفرص والبدائل التي يمكن للشباب تفريغ شحنات السلوك العدواني السلبي إلى سلوك تنافسي ايجابي لوجدنا ان مؤسسات خلق الفرص والبرامج قليلة جدا وموسمية، بل ونجد أن هناك غيابا للتطبيق في الميدان التربوي وكأنه حصن حصين لم يعد معنيا بالأبعاد التربوية وأصبح التركيز على حشو الجماجم بالمفاهيم دون تعزيز السلوك ومتابعته. ولعل ما أثارته الدراسة حول علاقة السلوك العدواني بالمدن أكثر من الأرياف مرتبط بتلاشي دور العلاقات الأولية الذي جعل من النصيحة في مجتمع المدينة مفتاحا لرد فعل عنيف من المنصوح وبعبارة أخرى "شين وقواية عين". فما هو العمل إذاً؟ اعتقد عندما أصبح مثل هذا السلوك العدواني يطفو على السطح بوجهه القبيح أصبحنا نسأل ما العمل؟ ولم نسأل عن النسبة المخصصة للدراسات والأبحاث الإنسانية في الميزانيات السخية التي تصرفها الدولة لنكتشف أنها قد لا تصل إلى واحد مقابل خمسة أبحاث علمية ممولة حكوميا. أنا لا اقلل من أهمية الأبحاث العلمية وإنما أدعو الى مزيد من الدعم للأبحاث الإنسانية وفصلها بشكل واضح يقارن بنفس الفصل في الجامعات. وان تخصص الميزانيات التفصيلية للأبحاث الطبية والأبحاث العلمية والأبحاث الإنسانية بشكل منفصل يعرف كيف يصرف ولماذا في كل عام؟ وبالتالي تحدد ملامح إستراتيجية بحثية لدراسة الكثير من الظواهر التي بدأت تنتشر فمن منهج خفي للتطرف الى بروز منهج خفي للانحلال وكلاهما خطر لتطرفهما ضد توازنات المجتمع واستقراره وعدم استفزاز الأغلبية من أفراده. ولعل بروز ظاهرة الاستخدام المفرط للتقنية الاتصالية يجعلنا نتساءل هل البحث العلمي هنا هو حول التقنية أم الإنسان المستخدم لها بشكل سلبي أو ايجابي؟ إنها تقنية بدأت تلقي بظلالها على عنف الشباب بدون بحث علمي مؤسسي.
مشاركة :