تحقيق: هديل عادل المجاراة.. هي تغيير في الاتجاهات أو المدركات أو القيم، نتيجة اتباع معيار معين، قد يتمثّل في الثقافة الجمعية، أو الأنماط السلوكية السائدة في المجتمع، ويعبر الأفراد عن المسايرة دوماً باستجابات تكون مشابهة لسلوك الآخرين، ووفق ملاحظات علم النفس الاجتماعي، فأغلب البشر يميلون لإعطاء تلك الاستجابات المتوافقة مع معايير مجتمعاتهم سواء كانت صحيحة أم خاطئة، ولكن المشكلة في المسايرة المفرطة، أنها تُفقد الفرد استقلاليّته وقدرته على التفكير الناقد، وبتأمل واقعنا الحالي يتضح أنه في ظل الانفتاح الثقافي المتاح على العالم بأسره، صارت المجاراة لما يفرضه الواقع من أنماط وسلوكيات، سمة سائدة لدى كثيرين، من يبرّرون تغيير اتجاهاتهم ومدركاتهم، على أنها استجابة لمتغيرات العصر. وفي السطور التالية نماذج مختلفة من أنماط المسايرة والمغايرة، ووجهة نظر أصحابها في اختياراتهم. يتعامل إبراهيم فايز، مهندس مدني بحذر مع كل ما هو جديد في المجتمع، ولا يحب أن يكون كفئران التجارب التي يستخدمها العلماء في إجراء أبحاثهم، ويقول: «لا أؤيد فكرة الانغلاق والاختلاف لمجرد الاختلاف، ولكني في المقابل أؤيد فكرة الحذر والحيطة، وعدم مجاراة الأفكار أو الأنماط التي تنتشر في مجتمعاتنا بين حين وآخر. وعلى سبيل المثال عندما ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي تفاعلت معها، ولكن هذا لا يعني أنها تصبح شغلي الشاغل، وأن تكون منبراً أجذب من خلاله الأنظار إليّ على حساب خصوصياتي. وللأسف هذا ما يقوم به كثيرون، نتيجة سوء الاستخدام من البعض، ومسايرة غيرهم لهم، وهذا ما ينطبق على كثير من السلوكيات التي تنتشر في مجتمعاتنا، كالاهتمام المبالغ فيه بالمظاهر، ومجاراة كثيرين لهذه الفكرة مهما كانت ظروفهم، ولهذا نجد معظم الأفراح والمناسبات الشخصية تأخذ نفس الطابع من الفخامة والكلفة العالية، مع اختلاف المستوى المادي لأصحابها». لغة المصالح لم تكن ترى دارين محمد، معلمة وأم لأربعة أطفال، مشكلة في مجاراة الأنماط السائدة في محيطها، لأنها كغيرها من الناس لا تختلف عنهم، ويجب أن تتفق في خياراتها وأفكارها مع محيطها، ولهذا عندما أرادت أن تُلحق ابنتها الأولى بالمدرسة، فكرت مباشرة في اختيار تلك التي تعتمد المنهاج البريطاني في خطتها الدراسية، حيث أصبح كثير من أولياء الأمور يفضلون أن تكون لغة الدراسة هي الإنجليزية، عوضاً عن العربية، ليتمكن الطالب من لغة عصره. وتكمّل دارين الحديث عن تجربتها، قائلة: «بعد سنوات من دراسة أبنائي، اكتشفت أن اختياري للمنهاج البريطاني لم يكن موفقاً، وذلك بعد أن علمت أن أبنائي سيكونون مطالبين بعد الثانوية العامة بإنجاز مساقات إضافية، وتجاوز عدة اختبارات حتى يتم معادلة شهادتهم وقبولهم في بعض الجامعات، حيث إن أبنائي سيكملون دراساتهم الجامعية في فلسطين. بالتأكيد سنواجه مشكلة في معادلة شهادة الثانوية العامة، وللأسف نحن أغفلنا هذه النقطة، مما اضطُررنا معه إلى تغير مسار أبنائنا في مراحل متقدمة من تعليمهم، من المنهاج البريطاني إلى الوزاري، وقد وصلت أكبر بناتي إلى الصف الحادي عشر، وهي تعاني وإخوتها اليوم صعوبة التغيير، ومن التأخر في تحصيلهم العلمي ومستواهم الدراسي». سلوكيات جديدة لا تحب إسلام القدرة، ربة بيت وأم لطفلين، أن تغرّد خارج السرب، لذا فإنها تتفاعل مع محيطها ومستجدات عصرها بلا قلق أو هاجس، كما تقول موضحة: «نحن نعيش في عصر التكنولوجيا والانفتاح الثقافي، ولاشك أن تفاعلنا مع معطيات عصرنا، هو ردة الفعل المتوقعة والطبيعية منا، وإن كنت أجد أن البعض ممن يبالغون في التحذير من كل ما هو جديد، يرفضوا فكرة مجاراة مستجدات عصرهم. وأعتقد أن سبب هذا الرفض هو خوفهم وعدم قدرتهم على المجاراة، أو رغبتهم في أن يكونوا مختلفين عن غيرهم؛ لذا فهم في الأغلب لا يتفاعلون مع أي جديد بالنسبة لهم، فمثلاً تجد بعضهم لا علاقة له بوسائل التكنولوجيا الحديثة، ويبتعد عن الأفكار المتطورة وغيرها من أنماط السلوكيات الجديدة، التي أصبحت من سمات عصرنا». الكمبيوتر اللوحي ترفض عبير عادل، ركوب الموجة دون أن تعرف إلى أين ستأخذها، قائلة: «عندما انتشر الكمبيوتر اللوحي، كان بالنسبة لمعظمنا ابتكاراً رائعاً لجميع الأجيال، سيساهم في تطوير قدرات أبنائنا العقلية، ويساعدنا في إنجاز مهامنا بسهولة، ويقدّم لنا المتعة والترفيه، وفي ذلك الوقت لم أتحمس كثيراً لفكرة توفيره لطفلتي الصغيرة، لأنني تصورت أنه سيؤثر سلباً على أنشطتها اليومية وتفاعلها مع محيطها، وهذا ما كنت ألحظه على غيرها من الأطفال، مما كان يدفعني لنصيحتهم بترك الجهاز واللعب مع أقرانهم. وفي بعض الأحيان كنت أتحدث مع الأمهات من المقربات مني عن قناعتي بأن هذا الجهاز سيؤثرعلى سلوكيات وتركيز أبنائنا، ولكنهم كانوا يتبنّون فكرة أنه يطور ذكاء الطفل، ومجرد أداة تسلية لا تستدعي كل هذا القلق، وبمرور السنوات ظهرت نتائج الاستخدام المفرط، وأثبتت الدراسات النفسية والتربوية نتائجه السلبية على نمو الأطفال وتطورهم الاجتماعي والنفسي، وما ينطبق على قصة الكمبيوتر اللوحي، ينسحب على غيره من المتغيرات التي نعيشها ونجاريها بشكل واعٍ أو غير واعٍ منّا». تناقض الأفراد ويوضح الأخصائي النفسي زياد عوض، سيكولوجية المجاراة ومحدّداتها، قائلاً: «هناك مفهوم ذو حدين في علم النفس نسميه المسايرة والمغايرة الاجتماعية، فالمسايرة تعبّر عن تغير في سلوك الفرد، و إصداره أحكاماً نابعة من تغيير في معتقداته ومدركاته، وفقاً للمعايير والعادات المقبولة في الوسط الاجتماعي الذي ينتمي له، بينما المغايرة تعبّر عن عدم انسياق الفرد وراء معايير وعادات مجتمعه، والسلوك بشكل يختلف عن المقبول في إطارها، وعادة لا يجرؤ الأفراد في المجتمعات الصغيرة والريفية والقبلية على التفكير في الانحراف عن السلوك المرغوب اجتماعياً، أو إبداء الإعجاب بأفكار تخالف أعراف المجتمع، بينما تعطي المجتمعات الكبيرة والمفتوحة فرصة أكبر لأعضائها للانحراف عن معاييرها، ولكن المجتمعات المتقدّمة تتأثر أكثر بالثقافات الجمعية، ومثل هذه الثقافات يكثر فيها التناقض، فهناك من الأفراد من يجد نفسه مجبراً على التصرف حسب المتوقع منه، لا حسب إدراكه وقناعاته وظروفه. وعلى سبيل المثال قد يلجأ الفرد إلى اتباع نمط حياة لا يتفق مع رؤيته وظروفه الشخصية والمادية، ولكنه يمثل النمط السائد في المجتمع». المظاهر الاجتماعية يشير الأخصائي النفسي إلى بعض أشكال المجاراة، قائلاً: «من أكثر أشكال المجاراة في عصرنا الحالي، مسايرة تيارات العولمة التي تهب على المجتمعات بين حين وآخر، وما تبثّه من أفكار وأنماط سلوكية تجذب الناس لها بشكل واعٍ أو غير واعٍ إليها، ولعل المظاهر الاجتماعية من أوضح أنماط المجاراة المنتشرة في مجتمعاتنا، فيضطر الكثيرون إلى تغيير طريقة وأسلوب حياتهم، تماشياً مع هذه المظاهر ومع الطابع العام لها، وأصبح هوس التغيير والتفاخر بالمظاهر والتقليد الأعمى، والإسراف ظواهر متأصلة في المجتمع، وقد تنافس على ذلك الذين يطيقونه والذين لا يطيقونه، والمجاراة عموماً تكون في الأفكار والسلوكيات والمبادئ والمظاهر والقيم والاتجاهات». ويضيف: «على أرض الواقع قلة هم من يجرؤون على أن يكونوا مختلفين بالمعنى الإيجابي للاختلاف، وليس بقصد الانضمام إلى مدرسة «خالف تُعرف». و بين متغيرات العصر وتيّاراته بتأثيراتها الإيجابية والسلبية على حياة الإنسان، تنبع الممارسة الإيجابية للمجاراة والمغايرة الاجتماعية من منطلق نفسي واجتماعي، يوازن بين المسايرة عن وعي، والمغايرة عن تفكير ناقد، يتفق مع قيم الفرد ومعتقداته وظروفه الإنسانية، والاجتماعية، ومن ثم فإن المجتمع بحاجة إلى نماذج إيجابية تشكل قدوة في سلوكياتها الواعية، واختياراتها القائمة على تفكير واعٍ، بعيداً عن المسايرة التي تصل إلى حد التقليد الأعمى في بعض الأحيان.
مشاركة :