قاهرة الغريب قاهرة الدهشة بقلم: وليد علاء الدين

  • 5/14/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة عروس التاريخ، أسيرة الزمان، تنتظر يدًا حانية تفك أسرها ليكتمل زفافها على التاريخ المندلق على أعتابها، منتظرًا لحظة الأنس ليخلو بها، فيجلو عنها وعنه الصدأ، وينفض عن كتفيها عباءة الوهن.العرب وليد علاء الدين [نُشر في 2017/05/14، العدد: 10632، ص(11)] تحتاج القاهرة إلى فنان كي يعشقها وعاشق حتى يفهمها وإله حتى يغفر لها. ذنوب القاهرة لا يغفرها سوى إله أو مجنون. وسحرها لا يدركه إلا عاشق أو مفتون، وذنوبنا تجاهها لا يغفرها.. سواها. بين عشّاق القاهرة المفتونين ومجاذيبها الفنانين تسقط في كل لحظة أرواحٌ جهدت في امتصاص رحيق الرمق الأخير من أنصبتها في نسغ مدينة لا تجود إلا لمن جاد بروحه، ولا مزيد. شوارع القاهرة ليست سوى مرايا، ليست ككل المرايا تعكس ما يُرى، لكنها تواري ما لا يُرى، ولا يعرف كنهَهُ سوى الغريب. الغريب يرى ما لا يراه القريب، القُرب قاتل الدهشة وصانع الألفة، الألفة مفسدة الروح، صنو الخمول. لا تهب القاهرةُ أسرارَها سوى لغريبٍ، من فرط الدهشة، يضرب بعصاه كالأعمى، فيصيب منها ما يصيب. ما الذي يمنح المدنَ أرواحَها؟ البيوت والعمائر والشوارع، أم البشر، أم إنه الوقت؟ إنه الوقتُ خَمَّار المُدن، يعتق ظلالَ البشر في دنان الأمكنة، تفوح روائحها فتنتشر الألفة في السماء، يهيم البشر مستنشقين روائح أسلافهم فيسقطون تباعًا في سلال الزمان: صاحب حانة الوقت العتيد؛ له كفٌّ بمسبحة، وأخرى بناي من قصب. وما القاهرة! سوى نغمتين من ناي تنظمهما دفقةُ حجرٍ في حبل مسبحة، لا الدفقة ينبغي لها أن تسبق النغمَ، ولا النغمُ بسابقٍ دفقَ الحجر. القاهرة عينا طفل باك، وقلب مراهق حائر، وروح امرأة وقفت على أعتاب الأنوثة قبل دقيقتين فخشيت أن تغادرها. القاهرة كفّ قاتل، وأصابع لص مخاتل، ووجه شحاذ بلا ضمير، وثدي امرأة نافر العطاء، وفرشاةُ رسام لا يعرف الكلل، ولا تنفد ألوانه ولو نفد النيلُ المهيب. وجهٌ شائه إذا راقبته من مقاعد التحضر وعلوم تخطيط المدن، لكنه -إلى حد المجون- فاتنٌ لمن ذاق لذَّة التكوين. كوكب من الندوب والثقوب والنتوءات والحفر والمرتفعات والمباني والمقابر.. يروغ منك الجمال إذا عاينته بعدسة الواقع المكبرة، لكنه سحري، لا فكاك لك من أسر تمائمه المعجونة بعناصر الطبيعة -أربعةً كانوا كما في علم الأبراج، أو خمسة كما في نظرية الطاقة- نارها ليس كمثلها نار، وترابها لا يضاهيه تراب، وماؤها ينوء بسرِّه الماءُ، وهواؤها يبوح.. ولا يُفشي، تلك القاهرة التي تحيي وتميت. “أون” مدينة الشمس، أفقُ السماء، سليلة الفراعنة، وقاتلتهم. قاهرة “المعز” ابنة البربر وسيدتهم. صنيعة العرب وفاتنتهم. شقيقة الرومان واليونان وساحرتهم. سيدة الترك والشراكسة وصانعتهم. فريدة الزمان ودرة المكان منبتّة الصلات بكل من كان وما كان، تنفخ نارَها من كيرِ وجودِها فتصنع نفسَها بنفسِها في كل يوم. القاهرة عروس التاريخ، أسيرة الزمان، تنتظر يدًا حانية تفك أسرها ليكتمل زفافها على التاريخ المندلق على أعتابها، منتظرًا لحظة الأنس ليخلو بها، فيجلو عنها وعنه الصدأ، وينفض عن كتفيها عباءة الوهن. القاهرة كونٌ لا سيد له، كونٌ من معدن الوقت، صاغته أنفاس الأمم، ونحتت زواياه سواعد كائنات من مشارق الأرض ومغاربها ممن خلق الله وبثّ في حنايا المعمورة وقال: كونوا بشرًا فكانوا. سادت عناصرهم لحظةً كومضٍ، ثم بادت في جُرمها العاتي، لم يفنوا، بل ظلوا فيها، وظلت هي جوهرة العناصر تصنع عنصرَها بقوة روحها. لا تريد القاهرة سيدًا، فهي سيدة. تريد عاشقًا يتمسح بأعطافها، يمسح بكفه أحزانها لتدخل في نعاسها بلا حزن، وتُفيق على صباح بلا وجع. لا تريد القاهرة مفكرًّا، فهي فكرةٌ في ذاتها، تريد مجذوبًا يخاطبها كطفلته، يعانقها كفاتنة التقاها في حانة، رأت صدقَ قلبه من عينيه، فرافقته إلى الرقص متجاهلة عكّازه القصير. لا تريد القاهرة مخلّصًا تُزيّن صدرَه النياشينُ والصفائح، فهي زينةُ الصدور، تريد مؤمنًا لتمنحه أسرارها وتقوده في دهاليزها عبر الأزمنة والأمكنة، نحو زمان الأزمنة ومكان الأمكنة. لا تريد القاهرة قائدًا، فهي القائدة منذ “أون” وحتى الجامع الأزهر، تريد فنانًا كي يعشقها، وعاشقًا حتى يفهمها، وسوف تغفر له -ولنا- ما تقدم من ذنوبنا تجاهها. أون، عينُ الشمس، أفقُ السماء، القاهرة…، بلا عاشق تمضي -الآن- بقوةِ ذاتها على منحدر صنعته البلاهة والفوضى. يا إلهي، لعلها لا تمضي إلى هاوية! شاعر من مصر مقيم في الإمارات وليد علاء الدين

مشاركة :