إن المتابع العادي لحال التعليم في مصر يشعر بالألم الشديد والحسرة الكبيرة على ما آلت إليه أمور التعليم في بلادنا، ويشعر بأن الحكومات قد استنفدت كل آلياتها في إصلاح هذه المنظومة، ولكن باءت كل محاولاتها بالفشل، بيد أن المتابع الجيد لأحوال التعليم يشعر بالاستغراب من ممارسات الأنظمة وقراراتها المتعلقة بالعملية التعليمية إلى الدرجة التي يشعر بها أن تلك الأنظمة المتعاقبة لا تريد إصلاحاً للتعليم بالقدر الذي تريد به إبقاء الوضع كما هو عليه، بل زيادة الطينة بِلة؛ قد تستشعر ذلك من القرارات المتعاقبة للوزراء التي ما تلبث أن تستقر حتى يتم إلغاؤها وإصدار أخرى، وقد تستشعر ذلك من القرارات غير المنطقية وقرارات تغيير الوزراء بصورة مستمرة، فما يلبث الوزير أن يرتب أوراقه ويبدأ مهام عمله وتنفيذ خطته إن كانت لديه خطة، حتى يتم استبداله بآخر لنعود إلى نقطة البداية. يكفي هنا -عزيزي القارئ- أن تعرف أنه منذ ثورة يناير 2011 وحتى الآن تم تغيير سبعة وزراء للتعليم، وأحد عشر وزيراً للتعليم العالي، بلغت فترات وزارة بعضهم بضعة شهور، ووصلت أكبر فترات وزارة بعضهم إلى عامين. ولا يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل إنك لو تابعت ممارسات وأفعال الوزراء والمسؤولين لوجدتها جميعاً لا تتجاوز كونها "بطولات كلامية" و"شو إعلامي" لها غرض واحد هو: إعادة إنتاج الذات وإعادة تصديرها للمشهد دون أدنى اعتبار للصالح العام. ويكفي لذلك -عزيزي القارئ- أن تستخدم محرك البحث "جوجل" وتبحث تحت عنوان "مؤتمر التعليم في مصر"؛ لتجد أنه في النصف الثاني من العام 2016 قد تم عقد ستة مؤتمرات عن التعليم وتقديم حلول إبداعية، ناهيك عن مؤتمرين للشباب برعاية مؤسسة الرئاسة وبهما جلسات حوارية عن إصلاح التعليم، وغير مضاف إليهما مؤتمر "علماء مصر بالخارج: مصر تستطيع" الذي كان أحد محاوره الأساسية البحث عن حلول لمشاكل التعليم. كل هذه المؤتمرات منذ عشرات السنين لم تعُد على التعليم بأية عائد يُذكر، فوضى مؤتمرية واهتمام كلامي بلغ عنان السماء، وممارسات وأفعال تثاقلت إلى الأرض فأبت حتى أن تخطو خطو السلحفاة. كل هذه المؤتمرات والأمر يزداد سوءاً يوماً تلو الآخر. أعزائي المسؤولين.. ليس بالكلام تحيا الأمم، ولا بالأفكار فقط تتقدم. تتقدم الأمم فقط حين تضع الأفكار محل الفعل، تتقدم بالعمل والجد والاجتهاد، ولكن "إحنا للأسف شاطرين جداً وفلاسفة في الكلام، لكن ما بنعرفش نخطي خطوة واحدة لقدّام، ولا نحل مشكلة واحدة". أعزائي المسؤولين المحترمين.. نحن لسنا بحاجة إلى أفكار وحلول، نحن بحاجة فقط إلى وضع الحلول محل التنفيذ. منذ أكثر من ثمانين عاماً كتب الراحل العظيم طه حسين كتاب مستقبل الثقافة في مصر، وحين قمت بعرض هذا الكتاب كتبت عنه "إن القارئ لكتاب مستقبل الثقافة في مصر يشعر بأن مؤلفه قد كتبه البارحة، يعيش معنا ويلاحظنا، يعاصر ما نعاصر، ويكابد ما نكابد من آلام، ويلمس بيديه ويرى بعينيه ما آلت إليه أمور التعليم في بلادنا، فيرسم بقلمه، ويخط بمداده سياسة شاملة تنتشلنا من براثن الجهل، وتصنع لتعليمنا هيبته ومكانته الذي يستحق"، والقارئ لهذا الكتاب يعلم جيداً أني قد قلت الحق بل اقتصدت في الوصف. ولم يكن طه حسين هو الأخير الذي حمل قضية التعليم على عاتقه، فقد حملها من بعده كثيرون من مؤسسات وأشخاص، ولعل أبرزهم في نطاق معرفتي من مؤسسات: مجلس السكان الدولي، ومؤسسة فورد التي لا تألو جهداً في تدعيم التعليم العالي، ولعل أهمهم من الأشخاص الدكتور حسام بدراوي، والدكتور أحمد زايد، والدكتور هاني سويلم، الذين قدموا الآراء التي لا ينقصها إلا وضعها موضع الفعل، ولكن كل ذلك لم يؤتِ نفعاً، والمسؤولون "وِدن من طين ووِدن من عجين". ثمة مشكلة أخرى صدمتني كثيراً وذلك حينما رأيت إعلان جامعة القاهرة بالتشارك مع مؤسسة أخبار اليوم عن مؤتمر التعليم في مصر: نحو حلول إبداعية. وقد كان مصدرُ صدمتي نقطتين أساسيتين، الأولى: أن جامعة القاهرة قد عقدت مؤتمراً تحت هذا المسمى في فبراير/شباط 2016، ولم يتم تنفيذ نقطة واحدة من توصيات المؤتمر. والثانية: أن من بين جوائز هذا المؤتمر جائزة منفردة لأحسن حلول إبداعية لمشكلة الدروس الخصوصية. لقد وقفت كثيراً أمام الطريقة التي يفكر بها المسؤولون عن العملية التعليمية، فلطالما تحدث الخبراء عن أن الدروس الخصوصية هي إحدى نتائج فشل العملية التعليمية، وليست أحد مدخلاتها، وتتلاشى ويتم حلها فقط بنجاح العملية التعليمية ككل، وقد كتب كاتب هذا المقال في ورقة ملاحظات على أعمال مؤتمر المجلس الدولي للسكان في 2014 أن العملية التعليمية عبارة عن سلسلة متعددة الحلقات، لا يمكن حل إحداها دون الأخرى، كما أن حل إحدى الحلقات لا يفضي بالضرورة إلى حل الحلقة الأخرى. أعزائي المسؤولين.. يقول صديقي الجزائري الدكتور عبد الرحمن أبو شالة: الأبكم علَّته في أذنيه ليست في لسانه. نعم، فالقضية قضية مدخلات ليست مخرجات. هدانا الله وإياكم إلى ما فيه خير لهذا البلد، وألهمنا حب العمل الجاد، وكفانا وإياكم شر الكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :