وترجل الفارس الشهم!

  • 5/17/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

< أعرف أنها كلمات تأخر قولها، وأدرك أنها عادة مستحكمة فينا ألا نقول للمحسن أحسنت حتى يغادر دنيانا ولم يعد يهمه ما يشغلنا من مظاهر الحفاوة والمجاملات، صادقها وكاذبها، أو يعنيه ما نقول عنه أو يتأثر بما يذكر من فضائله ومحاسنه، ولكن عذري أن من أتحدث عنه كان يقدر الذين يحترمون أنفسهم ويترفعون عن التواضع الكاذب والثناء المحجوج الذي يفقد المادح احترامه ولا يضيف للممدوح ما تعتز به القيم الفاضلة ويحفظ لها شموخها وتساميها ويحط من قدر الكلمات ويمسخ دلالات الصدق. لم أكن صديقاً مقرباً ولم أكن قريباً أو تابعاً، كما لم أكن تلميذاً، يقدم الولاء ويرد الدين أو يتجمل بالوفاء وحفظ المعروف. لكني سعدت، بزمالة لم تدم أكثر من سنوات عشر، لكنها ولّدت «صحبة» وتقديراً امتد وتنامى مع الأيام.. صحبة عرفت، بعض الأيام، تبادلاً للرأي لم يخف نقاط الاختلاف وتباين وجهات النظر في قضايا بعضها جوهري وبعضها مرحلي فرضته الاجتهادات وزاوية النظر. وفي كل الأحول والأوقات - مع الاختلاف الواضح - كان التقدير هو المعيار الذي حفظ لتلك العلاقة «الجليلة» روحها وسلامتها ونقاءها وصدقها الذي زرع في نفسي وفاء لا تمحوه التقلبات. عرفت أبا عبدالله تركي السديري - تغمده الله بواسع رحمته - يوم كان رئيساً للتحرير ملء السمع والبصر، وكنت صحافياً في «منتصف السلم الوظيفي» في بلاط مهنة المتاعب. كانت «الدرجة» التي أقف عليها تسمح لي بالتواصل معه من دون أن تمنحني حق الجلوس بجواره في الاحتفالات والمناسبات الرسمية، لكن الحال تغيرت حين امتد الزمن وتطاول، وصعدت سلم العمل الصحافي لأجد نفسي على كرسي رئاسة تحرير المدينة في 2000، فحينها اتصلت حبال المودة وتعددت اللقاءات من خلال الاشتراك في ما يجمع أهل المهنة، عادة، في اجتماعات العمل والرحلات الرسمية، وهي فرصة تعطي – في غالبها - فسحة من الوقت للحديث عن القضايا المشتركة وقد تمتد وتتشعب لاستكشاف الاهتمامات الشخصية والمواهب الخاصة، وفتحت لي هذه اللقاءات نافذة على تركي السديري الأديب والقارئ النهم صاحب الذوق الرفيع والخيال الشاعري المفتون بالجمال، المشغول بقضايا الإنسان الكبرى من دون أن تجفف مشاعره أو تخاصمه، مع العناية بتفاصيل الهموم الشخصية ومشاغلها الصغيرة. تحدثت معه ذات مرة – ونحن تجاذب أطراف الحديث حول الأساليب والفروق الدقيقة بين كاتب وآخر - ولفت نظره إلى سمة «التأنيث» في مقالته اليومية «لقاء»، وهل لهذه «السمة» جذور موضوعية متصلة بالنشأة الأولى، أم أن هناك مؤثرات خفية لا يدركها؟ فاعترف لي بأنه لم يلحظ ذلك ولم يلفت نظره أحد إليه من قبل، ولكنه لا يستبعد أن تكون للسنوات الأولى أثرها في قاموسه وبناء جملته، وجادل بأنه من الطبيعي أن تكون للأم والخالة والعمة تأثير، في سنوات العمر الأولى، ولعلها تركت في أسلوبه ما رصدته وإن كان لا يسلم بأنها «ظاهرة». وفي الرحلات العملية اقتربت من الراحل أبي عبدالله - غمره الله بواسع رحمته - ورأيت كيف كان يحظى باحترام زملاء سنه وتقدير الأجيال التالية، كما رصدت ميله إلى الإنصاف مع الرأي المخالف حتى وإن غلفه الاعتداد والاعتزاز بالرأي. وأبو عبدالله أخلص لمهنته وانشغل بهموم العاملين فيها وسعى إلى تحسين أوضاعهم وارتبط باسمه برنامج توطين الوظائف وإدخال الشباب السعودي إلى «المطبخ الصحافي» في مؤسسة اليمامة، إذ تعد المواد لتظهر في صورتها النهائية، بعد أن كان «هذا المطبخ»، في غالبية صحفنا، من اختصاص إخوة عرب، تعلم كثير منهم التحرير الصحافي في بلادنا. لم يقبل أبو تركي «كسل» الشباب واكتفاءهم بمهمة جلب «الأخبار الخام» وترك تصفيتها «للمطبخ المتعاقد» لأن ذلك يؤدي إلى تصعيد قيادات لم تتمرس بكل فنون العمل، وكان من نتائج هذه الرؤية والقرار ظهور جيل من الصحافيين المهنيين الذين يحترفون الصحافة. في هذه المهنة (الصحافة) وعلى كرسي رئاسة التحرير توجد محطات فيها الكثير من المسرات وبعض المنغصات وكأنها الدنيا مصغرة تذكرنا بأن لا دائم إلا وجهه الكريم. وقد مررت ببعض تلك المحطات السارة ونقيضها. كنت رئيساً لتحرير صحيفة المدينة في 2002 وكان الناس يتحدثون، همساً، عن بعض المظاهر التي تسيء وتشوه صورة المنظومة العدلية في بلادي فإذا شاعر صديق، عرفت صدقه وإخلاصه لوطنه يقدم لي قصيدة تنتقد سلوك قلة مسيئة لجهاز القضاء، ورأيت أن نشرها يعد جزءاً من مسؤولية الإعلام الذي يسهم مع أجهزة الرقابة في حماية مؤسسات الدولة من التشويه وإساءة السمعة، لكن ذلك «الاجتهاد» أفضى إلى خروجي من رئاسة التحرير بصورة مفاجئة، وإذا «الظلال» تغطي مساحة الضوء التي كانت تلاحق وجودي يوم كنت رئيساً للتحرير. فقد صمت زملاء المهنة وابتعد أصدقاء الكرسي وفرسان المجالس فإذا صوت أبي عبدالله تركي السديري يأتي دافئاً صافياً يحمل الدعم والمساندة ويعيد الثقة التي لم تذهب بأن صحيفة الرياض ترحب بقلمي متى وكيف شاء. وبالفعل بدأت الكتابة في الرياض مقالة أسبوعية بمكافأة مجزية، وكانت قيمة العودة إلى الكتابة في صحيفة محترمة كالرياض أكبر معنى من المكافآت التي كانت تصلني من دون مطالبة أو تأخير، وحين بدأت انتخابات هيئة الصحافيين في دورتها الأولى كتب أبو عبدالله إلى وزارة الإعلام بأني كاتب متفرغ في «الرياض» تقديراً منه لإسهامي، عضواً، في الهيئة التأسيسية التي أسندت لها مهمة إعداد مسودة النظام. الحديث عن هذا الرجل فيه متسع لا تستوعبه هذه السطور وسيظل مجالاً لتقليب أوج الحديث. رحم الله أبا عبدالله، وأسكنه فسيح الجنان، الرجل الذي سيفتقده الذين يقدرون الشهامة والرجولة.     * كاتب سعودي. mohalfal@

مشاركة :