حكاية صداقة من الزمن الجميل

  • 5/17/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لأكثر من ٣٠ عاماً رأيت مشهدا متكررا لم أدرك معانيه إلا بعد انقطاعه. ففي كل أربعاء وقبل صلاة المغرب تحديدا بساعة، أرى والدي ــــ رحمه الله ــــ «ينسف الجريمبة»، متجهاً إلى حديقة المنزل، وإذا «بالبسطة» في وسط الحديقة مجهزة بمستلزمات الضيافة يتجه والدي إليها بانتظار صديقه المخلص الذي عرفته حينها بعمي بو سعود. يتبادلان أطراف الحديث وقبل أذان المغرب بدقائق ترى بوادر ختام لقائهما في توديع العم بو سعود، حتى يتكرر المشهد الأسبوع المقبل. مرت السنوات واللقاء لم تغيّره الظروف، ولا الانشغالات ولم يوقف العم بو سعود بذات السماحة بالقدوم إلى البسطة، وفي يده «نقصه» تتجدد في كل زيارة. ومع ظهور ملامح «الشنب» لدي أصبحت جليسهما الثالث. واستمعت للحديث الذي طالما امتلأه الذكر الحكيم، وما إن استكمل أحدهما حديثه حتى شارك الآخر، إما بعبارة التوحيد، وإما بالحمد. مشاركاتي في الحديث بدأت متواضعة، وكانت ردودا على أسئلة العم بو سعود عن حالي أو تعليمي وتطورت مع الزمن.. ولم أكن حينها أفقه لكثير مما يقولان، إلا أنه تبين لي مع نضجي أن العلاقة فاقت كل توقعاتي. وجدت العم بو سعود في الأفراح والأتراح. كان صلبا في المواقف الصعبة بخلاف ما كنت أراه في كل أربعاء. وكان هينا لينا متواصلا مع كل من هو مرتبط بأبي من الأسرة والجيران والزملاء، الذين ارتادوا ديوان الأربعاء بعدما تطور مع السنين من بداياته المتواضعة مع بو سعود. وبعد أكثر من ربع قرن، فقد العم بو سعود بصره لأُفاجأ بأن ذلك لم يغيّر شيئا في زياراته المعهودة كل أربعاء وزيارة أبي له كل يوم إثنين. تدهورت حال العم بو سعود، ونقل إلى مستشفى العدان، في حين أُصيب أبي بالسرطان ورافقته إلى لندن للعلاج. هنا انقطع لقاء الأربعاء وبدأت قصة الفراق التي أبكت معظم من يعلم بهذه الصداقة. ما كان لأبي حينها إلا أن يتواصل مع أقربائه ليسأل عن رفيق دربه وهو فاقد للوعي في الوقت الذي كان أبي يتلقى علاجه الكيماوي. رجعنا بعد عام لتكون زيارة أبي الأخيرة إلى العم بو سعود في المستشفى. شاهدت لأول مرة تأثّر أبي، وهو بجانب ذلك الرجل العظيم، الذي حمل أسمى معاني الأخلاق والمروءة وتخطى بثباته مجريات الدنيا ومغرياتها. توفاه الله بعد أسابيع قليلة من تلك الزيارة. وما مكثنا غير بعيد حتى شهدنا أنفاس أبي الأخيرة، حاملا معه أجمل ذكريات العم بو سعود في لقاء الأربعاء؛ لتكون لهما شفاعة مما أدركاه من الأذكار ووصل الأرحام وعمل الخير، الذي لا يعلم مداه إلا الله. وما هذه الكلمات إلا وقفة وفاء، تجسيدا لثوابت بدأت تتلاشى، وتخليدا لعلاقة كانت ـــ وما زالت ـــ تمثّل لي أنقى وأرقى ما شهدته في حياتي. رحم الله تعالى العم عبدالعزيز عبدالرحمن الصفران. د. سليمان طارق العبد الجادر

مشاركة :