في المقاهي حياة اجتماعية أضحت مثابات لمعرفة حياة مرتاديها، وتأدية واجبات العزاء والأفراح وحضور العزائم والولائم، حتى تحولت إلى منطلق لعلاقات اجتماعية عميقة بالرغم من اختلاف أنواع مرتاديها وتباين مهنهم.العرب صباح ناهي [نُشر في 2017/05/18، العدد: 10636، ص(24)] ما يميز عاصمة الرشيد، كثرة مقاهيها، وشهرتها، وتخصصها، فلكل مقهى بغدادي حكاية ورواية “وقصخون” يرويها، ورواد لن يجرأوا على الجلوس في مقاه أخرى غير التي يجلسون فيها، وكأنها سبة أن يذهب أحدهم إلى مقهى منافسة، وكأنه ارتكب ذنبا مشينا، أو خرق التقاليد والأعراف الاجتماعية، لذلك لا يسمح بفتح الألسنة عليه حين يشاهد في مقهى ثانية، فلا يعمد لإبدال المقهى التي اعتادها. ويذيع صيت المقاهي من نوع روادها، ومسمياتهم وقيمتهم الاعتبارية في الثقافة والسياسة والوظائف العامة، حتى أن بعض المقاهي اتخذت لها أسماء من طبيعة مرتاديها، فهذه مقهى الشاهبندر، وتلك مقهى حسن عجمي وهناك مقهى أم كلثوم، وثمة مقهى للمعقدين ممن لا يؤثرون الثرثرة المعتادة في المقاهي اللصيقة، ويطغى عليها الصمت، والرصانة. وللمقاهي البغدادية نكهة خاصة في الارتياد والرواد معا حسب المهن والأحزاب والوظائف والحرف، والميول والاتجاهات، هي تتقولب كشكل روادها وتوجهاتهم، كنت أذهب إلى مقهى حسن عجمي في قلب شارع الرشيد، اللصيقة بشارع المتنبي، حيث تجد ضالتك من الأدباء والصحافيين والكتاب، وحشدا من رجال الأمن، الذين يسترقون السمع لأحاديث القصة والرواية وما نشر وينشر في اليوم التالي، حتى صار بعضهم مهتما بالثقافة والأدب، وتعمد كتابة جملة يومية لرؤسائه “كل شيء هادئ في المقهى” بالرغم من أحاديث تضرب في عمق السياسة، المهم تحول الكثير من رجال الأمن إلى متعاطفين مع الكتاب والأدباء والصحافيين، إعجابا بنتاجهم الشعري والقصصي، وباتوا يفخرون بتواقيع الإهداءات على إصدارات بعض رواد المقاهي ممن كلفوا بمراقبتهم والتنصت على أحاديثهم. وفي المقاهي حياة اجتماعية أضحت مثابات لمعرفة حياة مرتاديها، وتأدية واجبات العزاء والأفراح وحضور العزائم والولائم، حتى تحولت إلى منطلق لعلاقات اجتماعية عميقة بالرغم من اختلاف أنواع مرتاديها وتباين مهنهم، بل صارت عالما من التواصل والسؤال وتفقد الغائبين، ومعرضا لصور الشهداء والراحلين من بينهم ممن أخذتهم الحروب التي لم تتوقف طيلة نصف قرن. صاحب المقهى صار بطلا قوميا و"الجايجي" صار صديق الجميع، الكل يناديه بتودد لافت ويطلب حصته من "استكان" الشاي المهيل أو الداكن أو الخفيف، وهو يعرف مزاج كل واحد من رواد المقهى، وكمية السكر التي يضعها. وفي المقهى البغدادي دورة حياة كاملة أبطالها أشخاص عاديون من صلب المجتمع، منهم المثقف ومنهم غير المتعلم، يجمعهم حب عالم المقهى وحواراتها. صباح ناهي
مشاركة :