بشير الديك: أفلامي مرثية للزمن الفائت ولمرحلة «الزهو القومي»

  • 5/19/2017
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

بدأت رحلة السيناريست بشير الديك مع الكتابة عبر القراءة النهمة للأعمال الأدبية، لا سيما الروسية منها. وتركت رواية ميخائيل شولوخوف «نهر الدن الهادئ»، أثرها في نفسه من فرط معالجتها لتفاصيل الواقع في شكل جديد، في ظل منهج ورؤية فكرية محددة وجاذبية ووضوح في العرض. فبلغ تأثيرها عليه درجة جعلته ينتهج هذا النمط من الواقعية في أعماله لاحقاً، إذ وقع في غرام التفاصيل ذات السياق الفكري غير المباشر من دون فجاجة وصراخ. أحب عالم السينما بمؤثراته البصرية والصوتية وشعر بالانتماء إليه وراودته الأحلام أن يكون جزءاً منه. بدأ مع السينما عبر كتابة بعض القصص القصيرة وجاء اكتشافه على يد الكاتب مصطفى محرم والمخرج أشرف فهمي حين قدم لهما معالجة لإحدى قصص دوستويفسكي التي تحولت لأول أفلامه «مع سبق الإصرار» 1979. فكان بدايته إلى ذلك العالم الملون البهيج وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً. شكلت الكتابة عالم الديك الداخلي وتناول عبر أفلامه الواقع بصدقية شديدة، راصداً مرحلة الانفتاح وآثارها المدمرة لاسيما أنه عايش تفاصيلها، منذ تولي حكم مصر الرئيس أنور السادات الذي شرع في انتهاج تلك السياسات وفتح الباب على مصراعيه أمام المتطرفين. ما أورث المجتمع في رأيه كثيراً من السلبيات والتحولات السلبية أو اندثار القيم تدريجاً. فغلبت على أفلامه صبغة سياسية اجتماعية، وكانت الطبقة الوسطى هي محور أعماله، محاولاً قرع ناقوس الخطر أنها مهددة بفعل الانفتاح، فهو أحد أبناء تلك الطبقة وفي كنفها ولد عام 1944 في محافظة دمياط (شمال دلتا مصر). من هنا طرح التحولات المجتمعية والسياسية، وعبّر عن جيل كامل تفتح وعيه على المرحلة الناصرية وآمن بها وهلل لانتصاراتها وأحبط على وقع نكسة 1967، ليفاجأ بتحولات متوحشة حين سادت شريعة السبعينات. عبر عدد لا بأس به من السيناريوات، حفر بشير الديك اسماً بارزاً بين كتاب السينما، وتعتبر أفلامه من بين علامات السينما المصرية التي كشفت عن انشغاله بهموم الوطن ومعاناة مواطنيه بينها «سواق الأتوبيس» و «ضد الحكومة»، «الحريف» و«موعد على العشاء». لكنه اتجه في الفترة الأخيرة للتركيز على الدراما التلفزيونية مبتعداً من السينما وشكلت الدراما له إشباعاً لكونها «فن البوح»، فيما اعتبر السينما «فن الإيحاء». «الحياة» التقت بشير الديك الذي تحدث عن أعماله ومسيرته الممتدة وانشغاله المستمر بالهم العام المصري والعربي. > هل ثمة نص أدبي علق بذهنك وطمحت إلى تحويله فيلماً؟ - كتبت سيناريو أفلام كثيرة مأخوذة عن نصوص أدبية، لكن استهوتني رواية الكاتب اللبناني أمين معلوف «ليون الإفريقي» التي تطرقت إلى سقوط الأندلس، وتناولت رحلة مدهشة تستحضر خلالها تاريخاً كاملاً ولم أحولها إلى فيلم لأنها تطلبت إنتاجاً ضخماً، كما راقني كتاب معلوف عن «الحروب الصليبية»، لا سيما أنه يذكر بما يحدث في الوطن العربي من الانحلال والسقوط المرعب الذي نعايشه في الوقت الراهن.   مرحلة بلا ملامح > هل تنوي كتابة عمل حول الأوضاع الراهنة في الوطن العربي؟ - لا يمكنني الكتابة عن مرحلة بلا ملامح أو منهج محدد. فالكتابة عن الواقع تتطلب معرفة أبعاده، والولوج إلى العمق، ويعتريني هذا الهاجس حتى أثناء صناعة أعمالي، فشاغلي دائماً ما وراء الواقع وهو ما يحرك المغزى في أعمالي المختلفة. فنحن نعيش في مرحلة فارقة عصية على الفهم أو التصنيف، وتتملكني فيها حالة اندهاش وبلاهة، إذ غابت القواعد الأساسية وأضحينا نصارع بعضنا، وسادت حالة مرعبة من الانهيار، يكفي أن سورية لم تعد كما كانت، ومن الصعب عودتها، وكذلك العراق واليمن، وليبيا على وشك الانهيار، تلك البلاد العريقة العظيمة انتهت في شكل مأسوي وقبيح، من دون أي تفسير، بينما مصر تتهددها الأخطار طوال الوقت. > قلت من قبل أن هذه المرحلة تشهد تدجين الدين من أجل تدمير المنطقة؟ - بالفعل .. لكن من المؤكد أن هذا المصير لم يكن ليتم لولا موافقتنا ومساعدتنا على حدوثه. > ما الذي وصل بنا إلى هذا المصير؟ - حالة الضعف والخوار وعدم وجود أفق حقيقي. لقد مثّلت تجربة عبدالناصر في الستينات تجربة تنمية حقيقية وازدهار وطني وقومي، يمكن الاختلاف معه كيف شئنا، لكن الحقيقة أنه امتلك مشروع تحرر وطني واقتصادي، وأعاد بناء مصر عبر إنشاء 1200 مصنع. وتحددت قيمة الإنسان وفقاً لقدرته على الإنتاج آنذاك، لكن منذ فتح السادات الباب أمام الاستيراد فيما عرف بـ «الانفتاح»، تدهورت الأوضاع وصارت القيم الاستهلاكية هي السائدة. > تناول فيلم «ضد الحكومة» عام 1992 نتائج تلك السياسات، ما كواليس هذا العمل؟ - قدمت خلاله تغيرات المجتمع وظهرت جليّة عبر مرافعة أحمد زكي، إذ كنت أعبر عن جيل كامل تفتح وعيه على المــرحلة الناصرية. أعرف المحامي الذي استعرنا شخصيته في الفيلم، شخصياً وهـــو انتمى إلى جيلي الذي تربى في فتــــرة «الزهو القومي»، حتى تشربنا الرغبة الحقيقـــية في عمل نهضة، وخرجنا نطالب ناصر بالعودة عن تنحيه. وتمر السنون، وفجأة اكتشفنا البيع الممنهج للوطن، والقـــطاع العام، بمبالغ زهيدة إلى مجموعة مــــن الانتهازيين. واستقيت «ضد الحكومة» عن قصة حقيقية حين قتل 22 طفلاً تحت عجلات أحد القطارات، فوظفت الحادث وجـــمعت التفاصيل المتناثرة ووضعتها فــــي السياق. أردت عبر الفيلم تقديم مرثية للـــزمن الفائـــت، وفترة الزهو القومي، بعدما جاء الانفتاح و «الرئيس المؤمن»، الذي فتح الساحة أمام الجماعات الإسلامية. > شكلت ثنائية مع «محمد خان» حيناً و«عاطف الطيب» حيناً آخر؟ - تقاربت وخان للغاية حيث اجتمعنا على «حلم السينما» غير التقليدية،، إذ سادت تلك الفترة مواصفات مقننة، بعضها يجنح إلى»الصبغة التجارية»، والبعض الآخر ذو صبغة ثرية لا يفهمها إلا النخبة المثقفة. أراد خان صيغة مختلفة، وجمعتنا عدة أفلام بينها «الرغبة» 1979 ثم «طائر على الطريق» 1981، و«موعد على العشاء» 1981 مع سعاد حسني، ومن ثم «الحريف» 1984. وكان أحد أفضل أعمالنا معاً، لا سيما أنه اعتمد على التفاصيل الدقيقة من دون توقف، عبر بطله «اللامنتمي»، وغير المثقف الذي أراد لعب كرة القدم فقط، وحين يسأله ابنه في النهاية « ألن تلعب مرة أخرى» يجيبه قائلا «زمن اللعب انتهى» والمقصود به زمن البراءة والمتعة، واللعب في الشارع بين الناس، حيث اتجه عوضا عن اللعب إلى العمل في تهريب السيارات في إشارة واضحة إلى مرحلة «الانفتاح» حيث انهيار المجتمع . > ماذا عن فيلم «سواق الأتوبيس» 1982؟ - محمد خان هو صاحب فكرة «سواق الأتوبيس»، لكنه اقترح أن يقوم الطيب بإخراجه، وحقق العمل نجاحاً كاسحاً، لا سيما أنني أخذت فكرته في منحى آخر، حيث شغل ذهني الشباب الذين حاربوا في تشرين الثاني (أكتوبر) 1973، ثم أنهوا خدمتهم العسكرية وخرجوا إلى الشوارع المصرية للعمل كسائقين في أتوبيسات النقل العام، وكنت وخان قد تعارفنا على المخرج عاطف الطيب، وجمعتنا صداقة وطيدة. > ماذا عن علاقتك بعاطف الطيب هل كان الأقرب إلى قلبك؟ - بل الأقرب إلى روحي وأسميته «توأم روحي». كنت أصنع شخصياتي وأبثها من شخصيتي وذاتي وسمات البساطة والأصالة والرحابة المصرية، وكان الطيب أقدر المخرجين على الوصول لتلك الروح عبر تركيز وبساطة بالغة وفي الوقت الملائم تماماً. > فيلم «الحريف» كتب من أجل أحمد زكي لكن قام بتمثيله عادل إمام... هل من السهل أن يصيغ المؤلف شخصية من أجل ممثل بعينه؟ - ليس بهذه الدرجة وإلا تحول إلى مجرد ترزي، لكن بالنسبة إلى جيلنا، أعتبر أحمد زكي «الفتى الأول»، وهو فعلاً أكثرهم كمالاً ولمعاناً، وكان تفكيرنا يتجه فوراً إلى زكي إذا أردنا تجسيداً جيداً لشخصية ما. > لماذا اعتبرت زكي بطلك المفضل؟ - لكونه ممثلاً عبقرياً، يشبه بهذا سعاد حسني. كانت سعاد خارج الكاميرا شخصية مختلفة، وكذلك زكي الذي يتقمص الحالة والشخصية بشكل تام أمام الكاميرا، وتأتي أتعس لحظاته حين يقول المخرج «سنعيد المشهد» لأنه ينتزعه من حالة التقمص، إذ تمتع بروح محتشدة ومتأججة.   كاتب «الهروب» الحقيقي > قيل إنك أنت صاحب فيلم «الهروب»؟ - بالفعل هذا حقيقي، إذ جاءني عاطف الطيب بسيناريو الفيلم كي أبدي له ملاحظاتي، اعتذرت لأن كاتبه هو صديقي مصطفى محرم، الذي ساعدني خلال بدايتي، وينبغي استئذانه، وترددت لفترة لكن سرعان ما أعجبت بالموضوع ووجدت له طريقاً مجنوناً. > هل غيرت معالم السيناريو في «الهروب»؟ - أخذت من الرواية «الحدث الرئيسي» وبداخلها صنعت عالمي الخاص، حيث تدور حول فتى يدعى ويليام زخاري هرب من السجن، فنسجت قصة وعالماً مخالفاً تماماً بما فيها علاقته بعائلته. > كيف صنعت عالم منتصر بطل «الهروب» بكل تفاصيله المتشابكة؟ - جعلت من بطل الفيلم منتصر «صقاراً» أي صائد للصقور ورث مهنة والده، فكانت شخصيته متمردة مثل أبيه، لايمكنها الانضواء تحت سطوة أحد، كما تتسم بالأصالة، ورغم كونه قاتلاً، فإنه ينهار أمام والدته ما يمكن الضابط من القبض عليه عبر احتجازها كـ«رهينة» ليقول منتصر «عرفت تجيبني»، كان عالماً شاعرياً أكثر منه واقعياً. > لكن ثمة جزءاً واقعياً يتعلق ببطش السلطة متمثلاً في الضابط العائد لتوه من التدريب في الولايات المتحدة.. ألم تكن فكرة واقعية؟ - جاءت تلك الفكرة عبر ما استشعرته في الأجواء العامة آنذاك، فالضابط الذي قام بدوره محمد وفيق، يعرف متى يستخدم قضية منتصر لإشغال الرأي العام عن قضايا أخرى عبر تسهيل هروبه. > في نهاية فيلم «الهروب»، يموت منتصر والضابط بطريقة توحي أن كلاهما يفتدي الآخر.. ماذا أردت أن تقول؟ - صاغ عاطف الطيب مشهد النهاية قبل كتابة السيناريو إذ قالي لي «أمنيتي أن أنهي الفيلم بمشهد احتضان الضابط للمجرم، محاولاً أن يبعده عن ضرب الرصاص فتخترق جسده هو». عل رغم أن العلاقة بينهما عدائية. فنسجت قصة تؤدي إلى النهاية التي تمناها الطيب فجعلتهما أبناء بلدة واحدة، أحدهما ابن الناظر بينما يعمل والد الآخر في مهنة أبيه كـ «صقار» كان اختيار مهنة الآباء ذا دلالة ورمزية، ولم يكن ذلك ضمن أحداث العمل. ونهاية الفيلم صنعت أولاً على يد عاطف الطيب الذي رآها مبكراً. بالنسبة إلى كلينا، كانت حكاية إنسانية جداً لإثارة الشجن لدى المتلقي. لم نبتغ طرح أفكار بمقدار ما طمحنا إلى تحريك قلبه وروحه ودواخله.   فيلم ناجي العلي > لماذا أثار فيلم «ناجي العلي» 1992 ضجة عارمة وحملة ضارية حين طرحه؟ - بوصفي مواطناً مصرياً وعربياً، راودني الحلم بصناعة عمل فني حول فلسطين حتى جاء نور الشريف طارحاً فكرة فيلم عن رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلى الذي اغتاله الموساد، قرأت كثيراً عنه، وقمت برحلة متعقباً إياه منذ ميلاده وحتى رحيله، فسافرت إلى الكويت تحدثت مع أهله وزملائه في العمل، ثم بيروت وصيدا ومخيم عين الحلوة حيث عاش وترعرع، وسافرت في إثره إلى لندن وتونس، فخرجت من تلك الرحلة متشرباً كل تفاصيل حياته، وعرفته أكثر من أبنائه ومن ثم بدأت رحلة الكتابة التي دارت أحداثها عبر 3 أزمنة هي «الزمن الحاضر» حيث اغتيل ناجي ورقد في «غيبوبة» لمدة 40 يوماً، ثم «الزمن الماضي» متطرقاً للأحداث والأسباب التي دفعت لاغتياله، ومن ثم الزمن الأقدم خلال مرحلة طفولته. وعلى رغم انطلاق أحداث الفيلم عبر تفريعات ثلاث إلا أنه لم يقع أي خلل. > وما أسباب الحملة ضده؟ - قاد تلك الحملة الضارية آنذاك «رئيس تحرير أخبار اليوم» إبراهيم سعدة، على رغم أنه تم عرضه في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي وسط احتفاء بالغ. > ما دوافع إبراهيم سعدة؟ - لا أعلم تحديداً، وقيل إنه مع الرئيس الأسبق حسني مبارك فسأله عن أسباب الهجوم على الفيلم فأجاب سعدة «هذا رجل لا يحب مصر أو يحبك يا ريس». نظراً إلى أن ناجي العلى رسم كاريكاتيراً واصفاً مبارك بـ «لافاش كيري» أو البقرة الضاحكة. وبمجرد أن تطرق مبارك للأمر، توقفت الحملة في اليوم التالي على الفور. لقد سئلت من قبل لماذا صنعت فيلماً حول ناجي العلى بينما يكره مصر، فكانت إجابتي «إنه يكره سياسات نظام ولا يكره مصر، وهذا هو حال كل المثقفين المصريين الذين اتخذوا موقفاً مضاداً لاتفاقية كامب ديفيد آنذاك». > كتبت أفلام عدة تحمل صيغاً تجارية بخاصة تلك التي قامت ببطولتها الفنانة نادية الجندي، ألا ترى ذلك انحرافاً على نهجك؟ - كانت تلك الأفلام من إنتاج نادية الجندي وزوجها، ومخرجها هو عاطف سالم وهو أحد كبار المخرجين لكنه تقليدي، واختلفت تلك الأفلام إذ غيرت من نمط ما تقدمه نادية في أفلام سابقة اتسمت بالسوقية وثمة أفلام لاقت استحساناً وإشادة النقاد والجمهور. > إذن أنت لست ضد السينما التجارية؟ - السينما التجارية هي تلك الأفلام الجماهيرية، والسينما هي تجارة وصناعة في شكل رئيس.

مشاركة :