المصالحة في تونس ليست في حاجة إلى قانون يخضع للصراع بين إرادة قوية ومعارضة شرسة، بل إلى عقد وطني جامع يضع اللبنات الأساسية لمسار مصالحة قانونية واجتماعية ونفسية تحقق العدل.العرب مصطفى القلعي [نُشر في 2017/05/19، العدد: 10637، ص(9)] تحتاج الشعوب في لحظات فارقة من وجودها تحت الشمس إلى وقفة مصالحة تستمدّ منها دفقا ودعما لازمين للاستمرار والتقدم. والمصالحة مصالحات فهناك مصالحة مع الماضي وهناك مصالحة مع الحداثة وهناك مصالحة مع العلم والتكنولوجيا وهناك مصالحة مع العادات والمواريث. وكل منها تحتاج إلى عمليات تمهيدية وأخرى إدماجية تكون كفيلة بتلبيس المصالِح (بكسر اللام) مع المصالَح (بفتحها) بحثا عن نجاح العملية وتجنبا للتشوهات والنشاز والانحراف. ولعله من أعسر أنواع المصالحة تلك التي تعرفها تونس هذه الأيام حيث يرغب شق من التونسيين في تحقيق مصالحة يرونها ضرورية بينهم. وهذه الرغبة اختاروا التعبير عنها عبر المؤسسات وتحديدا عبر مؤسسة مجلس نواب الشعب من خلال قانون للمصالحة الاقتصادية والمالية. وكان التعويل طبعا على تفاوت موازين القوى لصالح الكتل البرلمانية المتحالفة في الحكم من أجل تمرير القانون والتصويت عليه. ولمشروع هذا القانون اليوم تاريخ في تونس يتجاوز السنتين إذ كان رئيس الجمهورية قد عرضه على مجلس الوزراء منذ يوليو 2015، وتمّ تمريره إلى مجلس نواب الشعب حيث عقدت لأجله لجنة التشريع العام وقتها أكثر من 21 جلسة نقاش دون أن تتمكن من حصد التوافق اللازم بين الكتل البرلمانية لعرضه على الجلسة العامة. فسحبته رئاسة الجمهورية لإدخال تعديلات على نصه. ولكن، وبعد جدل طويل، يبدو أنها أعادته بصيغته الأولى إلى مجلس نواب الشعب ليعرض على الجلسة العامة حتى تناقشه وتدخل عليه ما تراه من فصول وأبواب ونقاط تعديلية. لمشروع هذا القانون مسار آخر إلى جانب مساره المؤسساتي هو المسار المعارض له، إذ منذ الإعلان عنه تشكل ائتلاف مدني لمعارضته تكون من أحزاب ومنظمات وطنية وجمعيات. واشتغل هذا الائتلاف على واجهتين؛ الواجهة المؤسساتية من خلال عريضة الطعن في دستورية مشروع القانون التي رفعت إلى الهيئة الوقتية لدستورية القوانين وقبلتها شكلا، والواجهة الشارعية من خلال تحركات في الشارع. ولكن عندما نتأمل في مواقف جميع الأطراف من المصالحة نجد أنها جميعا متفقة من حيث المبدأ على أن المصالحة ضرورية لتونس ولا مناص منها. المشكلة ليست في المبدأ، إذن، بل في المنهج والتفاصيل وفي الخلفيات والمنطلقات. فهناك من يريدها مصالحة شاملة. وهناك من يريدها مصالحة اقتصادية ومالية. وهناك من يريدها مصالحة ضمن العدالة الانتقالية. وهناك من يريدها مصالحة إدارية فقط. وهناك من يريدها مصالحة تشمل فترة حكم الترويكا. ولكن من يريدها مصالحة تداوي جراح التونسيين وتؤلف بينهم وتنصف المظلومين وتعيد الحقوق إلى أصحابها وتحقق العدل كقيمة إنسانية سامية ترتقي بالمجتمع وتحقق السلم والأمن فيه؟ في موضوع المصالحة المطروح اليوم بإلحاح على التونسيين، كما طُرح على شعوب أخرى شهدت أحداثا شبيهة بالتي حدثت في تونس في فترات حاسمة من تاريخها، كالشعب التشيلي والشعب الجنوب أفريقي، في هذا الموضوع أظهر التونسيّون نزوعا نحو أن يكونوا قضاة لا محامين. فالقضاة يحكمون على الناس، أما المحامون فإن مهمتهم هي فهم الناس، وهنا تكمن السعادة، بعبارة الكاتب النمساوي الشهير ستيفان زفايغ (1881 – 1942). بعد غربلة المواقف والمنطلقات لمسألة المصالحة كما تعرض في تونس اليوم يمكن أن نجملها في كونها تتراوح بين حدّين؛ حدّ يجعلها شرطا للمصلحة العامة، وحدّ آخر مناقض للأوّل يعتبرها صنوا للفساد. وبين هذين الحدّين خسر مفهوم المصالحة دلالاته العلاجية لجراح الشعب وذاكرته والتحق بكوكبة المفاهيم النبيلة التي ذبحتها الصراعات السياسية المنهكة لتونس المعطلة لمسيرتها. ربما لو تم عكس الطريق وتغيير المنهج لكانت النتائج أفضل من خلال فتح النقاش العام حول المصالحة وإقامة ما يلزم من الحوارات والندوات مع الجميع. تونس بلد التوافق كما يردد المتحمسون لمشروع قانون المصالحة وقادة الحوار الوطني والمشاركون فيه. فلعله كان سيكون أجدى لو تم البحث عن أقصى درجات التوافق حول المصالحة قبل عرضها قانونا على مجلس نواب الشعب. هكذا نجحت تونس في محطات سابقة أصعب وأخطر. فلماذا وقع التخلي عن المنهج عندما تعلق الأمر بالمصالحة؟ هناك محطات معقدة مرت بها تونس كان يجب أن تدعو إلى التأمل وإعادة ترتيب الخيارات والأطروحات. من ذلك موضوع المجلس الأعلى للقضاء الذي مر عبر الاستقواء بغلبة الأغلبية دون أن يحصل حوله التوافق اللازم لتحقيق الإجماع الضروري لاستقراره كمؤسسة راسخة مطمئنة للتونسيين. تجربة المجلس الأعلى للقضاء كان يجب أن تعيد الحياة لشعار التوافق. فتونس يريدها جزء منها أن تطوي مرحلة الشارع لتكتفي بالمؤسسات بديلا لا سيما أنها مؤسسات منتخبة. بينما يرى شق آخر منها أن الشارع قوة تعديلية يحق للشعب التونسي أن يستعملها ككل الشعوب الحرة التي تعبر عن رأيها عبر كل السبل الشرعية المتاحة، من البرلمان إلى الإعلام إلى الشارع بكل أنواع التحرك فيه. لا بد من الإقرار اليوم بأن المصالحة قد لا تحتاج إلى قانون يسلك المسار المعروف من سلطة تنفيذية تقترح القوانين وسلطة تشريعية تناقش وتصوت وتسن وتعيد المقترح الخام قانونا مشرعا له. يبدو أن هذا قد لا يكون مفيدا لتونس في موضوع المصالحة بالذات الذي أصاب المشهد السياسي التونسي بالارتباك. فالأحزاب المتحالفة في الحكم غير منسجمة في هذا الموضوع ومواقفها بلغت حد التناقض. من ذلك أن الحزب الجمهوري المشارك في حكومة الوحدة الوطنية يشارك في المظاهرات ضد مشروع قانون المصالحة. كما يرفض حزب آفاق تونس المشارك أيضا في الحكومة أن تشمل المصالحة رجال الأعمال. بينما لا ترفضه حركة النهضة وإنما لها تحفظات وتطالب بتعديلات يراها شركاؤها تمس من جوهر القانون. وفي المقابل يشق مشروع القانون مواقف المعارضة أيضا. فالجبهة الشعبية والاتحاد الوطني الحر يرفضانه. وحركة مشروع تونس تدافع عنه بشراسة. نفس الانشقاق أصاب مواقف المنظمات الوطنية الكبرى. فاتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية يرحب به، بينما لا يرفضه الاتحاد العام التونسي للشغل وإنما يطالب بتعديله وبتوسيع دائرة النقاش حوله ولِم لا إقامة حوار وطني حوله شبيه بالحوار الوطني السياسي الذي قاده الرباعي الراعي أواخر 2013 ومطلع 2014؟ المصالحة في تونس ليست في حاجة إلى قانون يخضع للصراع بين إرادة قوية ومعارضة شرسة، بل إلى عقد وطني جامع يضع اللبنات الأساسية لمسار مصالحة قانونية واجتماعية ونفسية تحقق العدل في تونس وتعيد الحق لأصحابه وتزرع السعادة في التونسيين وتنهي فترة الغبن والتفاوت والاستغلال والظلم واللصوصية المقننة. تونس تحتاج إلى عقد مصالحة يكون عبارة عن عقد تعايش يفهم التونسيين ولا يحكم عليهم فقط. كاتب وباحث سياسي تونسيمصطفى القلعي
مشاركة :