حينما يعجز المجتمع عن إبقاء تأويلاته الدينية النابذة للعقائد المخالفة في حيزها التعبدي، لتتسرب إلى المجال العمومي، ويتداولها العوام، فإنه يقع ضحية تلاسن عقائدي، ينذر بأوخم العواقب. نذر فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين تلوح مجدداً في مصر، والسبب ببساطة هو عدم تجذر مفهوم "دولة المواطنة"، من جانب، والخلط المأفون بين ما يمكن أن يقال في دروس العقيدة وبين الحديث في المجال العام، من جانب آخر. حينما يعجز المجتمع عن إبقاء تأويلاته الدينية النابذة للعقائد المخالفة في حيزها التعبدي، لتتسرب إلى المجال العمومي، ويتداولها العوام، فإنه يقع ضحية تلاسن عقائدي، ينذر بأوخم العواقب. قبل أسبوعين قال الشيخ الدكتور سالم عبدالجليل، وكيل وزارة الأوقاف المصرية الأسبق، والداعية الديني المعروف، في برنامج تلفزيوني على إحدى الفضائيات المصرية الخاصة، إن المسيحيين "كفار وأصحاب عقيدة فاسدة". وعندما تلقى الشيخ سالم الانتقادات، وواجه القرارات العقابية، وتمت دعوته إلى التنصل مما قال، فإنه اكتفى بالاعتذار عن "جرح المشاعر"، لكنه صمم على أن ما قاله يمثل جوهر عقيدته، وأصر على عدم التراجع عنه، باعتباره ورد في نصوص القرآن الكريم، كمبدأ ثابت من مبادئ العقيدة. لقد تسببت تصريحات الشيخ سالم في غضب كبير بين أوساط مثقفين وإعلاميين وكتاب ومحللين ليبراليين، كما انتقدته قطاعات مؤثرة في الجمهور، لكن المرارة التي لحقت بمعظم المسيحيين المصريين من جراء تلك التصريحات كانت كبيرة، وهي مرارة انعكست في تعليقات ومشاركات عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وأنذرت بانفجار فتنة. لم يكد أسبوع يمر على تصريحات الشيخ سالم الخطيرة، حتى جاء الرد من القمص مكاري يونان، أحد القادة الدينيين في الكنيسة المصرية، حيث أجاب عن سؤال بخصوص تصريحات الشيخ سالم، فيما كان يلقي درساً دينياً، بقوله: "المسيحية هي عقيدة الخلاص، ولا خلاص إلا بيسوع المسيح، ولا طريق آخر إلى الملكوت سوى طريقه... الأقباط أصل مصر، ومصر مسيحية، والإسلام انتشر بالسيف والرمح". سيعتقد بعض المتابعين لما جرى أن سبب الإشكال لا يخرج عن كونه عدم احتراز القائدين الدينيين، وأن احتواءه ممكن عبر انتقادهما، أو توبيخهما، أو منعهما من الوعظ والتصدي لمثل تلك القضايا في العلن. وعندما نحاول أن نحلل أصل الإشكال، فسنجده لا يخرج عن كونه نوعاً من الخلط السيئ بين ما هو "ديني" وما هو "اجتماعي وسياسي"، وبصورة أخرى هو نوع من الخلط في طبيعة النقاش العمومي المفترض حول أمور العقيدة في "الدولة الدينية" و"الدولة الوطنية". نحن نعرف أن فهم بعض المتدينين لتدينهم يقوم على الإقصاء، لكننا لا نقول ذلك عادة في العلن، وعندما يتجاسر أحدنا ويعلن ذلك بوضوح، فإنه يتعرض لأنواع شتى من الهجوم والملاحقة. كيف نقول عن مفهوم التدين إنه "إقصائي"؟ ألا تحض الأديان، وأولها الإسلام والمسيحية، على التآلف والتآخي والتآزر والرحمة وحسن المعاملة مع الآخرين؟ بلى. إجابتنا قد تكون بلى. لكن هذا لا ينفي أن كثيراً من المتدينين، الذين ينتمون إلى أي دين من الأديان، يعتقدون بأنهم "يحتكرون الخلاص"، وأن دينهم هو "الدين الحق"، وأن أتباع الأديان الأخرى، وغير المتدينين، في "ضلال". ستأتي الدولة الوطنية لاحقاً لتحاول أن تحل هذا الإشكال، عبر الحرص على الموازنة بين حرية الرأي والضمير والاعتقاد والكلام من جانب، وبين حقوق المواطنة وضرورة المحافظة على السلم الأهلي، وعدم انتهاك كرامة الآخرين، من جانب آخر. وستقرر الدولة الوطنية، كما نعرفها في العالم المتقدم، أن تحظر أي تقييد للحق في الكلام، وأن تحظر أي ممارسة تدعم أي دين أو تناهض أي دين، وأن تمنع أي تقييم ينال من حق الإنسان المواطن أو كرامته أو اعتباره، استناداً إلى أي تأويل ديني؛ حتى لو كان هذا التأويل نابعاً من نصوص مقدسة تدين بها أغلبية المواطنين. وقد خلصت "الدولة الوطنية" في أفضل تجليات فصلها بين الحق في التدين وحقوق المواطنة إلى ما يلي: أولاً: إن الدولة الوطنية غير معنية بالهوية الدينية لمواطنيها، ولا بتصوراتهم الدينية، إلا في ما يخص ضمان أدائهم شعائرهم، واحترام معتقداتهم، في إطار القانون. ثانياً: التدين ليس سوى وجهة نظر تخص صاحبها فقط، ولا يترتب على تبني معتقد معين، أو إظهار ذلك، أو إخفائه، أي مزايا أو خسائر معنوية أو قانونية أو اجتماعية أو مادية. ثالثاً: مكانة الفرد وكرامته ومكتسباته وحقوقه ومركزه القانوني وواجباته تجاه الدولة والمجتمع والأسرة ليس لها أي صلة بتصوره الديني. رابعاً: لا يحق لأي فرد أو جهة أو كيان أن ينال من كرامة مواطن، أو فئة من المواطنين، أو أن يُقيّم المعتقد الديني الذي يؤمنون به، أو أن يجعل هذا مجالاً للنقاش العمومي. خامساً: سيكون من حق وسائل الإعلام أن تقدم محتوى ذا طبيعة دينية، لكن هذا المحتوى يجب أن يخضع لشروط صارمة؛ أولها عدم استخدامه في التبشير واستقطاب عناصر من أتباع الأديان الأخرى، وثانيها عدم الطعن في عقائد الآخرين أو المساس بها أو الخوض في شؤونها بطريقة نقدية، وثالثها عدم المقارنة بين المراكز المعنوية والروحية لأتباع الأديان المختلفة، وفي كل الأحوال يجب أن يكون هذا المحتوى الديني بعيداً كل البعد عن التمييز أو إثارة الكراهية، فضلاً عن التحريض على العنف أو الإغراء باستهداف أتباع الأديان الأخرى. سادساً: إن ازدراء الأديان جريمة، يجب معاقبة من يقدم عليها، بصرف النظر عما إذا كان الدين الذي وقع عليه الازدراء هو ما تدين به الأغلبية أو الأقلية. سيأتي الدكتور سالم، والقمص مكاري يونان، ليقولا: "نحن لم نتجاوز الحقيقة، فكل منا قال في العلن ما يعتقده ويؤمن به. من حقنا أن نقول ذلك اتساقاً مع ضمائرنا، ورغبة في نيل رضا الرب الذي أمرنا بهذا. لدينا جمهور، ونحن مسؤولون عن إرشاده وهدايته وتصويب معارفه الدينية". وسيأتي من يقول لهما إن ذلك يجب ألا يُطرح في المجال العام، وألا يتم تداوله وابتذاله لتلوكه العامة، ويصبح باباً لاندلاع الفتن وتمزيق الوحدة الوطنية والسلم الأهلي". * كاتب مصري
مشاركة :