لم تكن قصائد ديوان «أزهار الشر» للشاعر الفرنسي شارل بودلير... منصرفة إلى ذات الشاعر، بكل ما تتضمنه من إنكار للواقع في أشكاله المرئية، التي تتماثل فيها الآلام والمعاناة والنفاق وفقدان الألفة والحب، ولكنها- كما أراها- قصائد تؤرخ لمشاعر الإنسان الباحث عن الحلم في تجلياته الجمالية.والقصائد قرأتها أكثر من مرة وفي أعمار مختلفة... قرأتها وأنا طالب في الجامعة... ثم قرأتها وأنا خريج، ثم عاودت قراءتها وأنا في بداية عملي الأكاديمي، ومن ثم قرأتها بعد ذلك في أكثر من زمن... وكنت أجد أن فهمي للقصائد يختلف من مرحلة لأخرى، وهو فهم ربما تتداخل فيه عوامل الحياة وما نتج عنها من تغييرات طرأت على نظرتي للحياة، وهي بكل تأكيد تختلف من عمر لآخر.ولكن الانطباع الذي لم يتغير تجاه القصائد هو ذلك الذي يشعرني بالحيرة والرغبة في التأمل عقب الانتهاء من آخر سطر في الديوان، كما أن قراءتي للقصائد في ترجمتها الإنكليزية- التي أتقنها- تختلف عن قراءتي لها في ترجمات عربية مختلفة، وهذا ما جعل لهذه القصائد مكانة خاصة في مشاعري، وأكاد أجزم أنها ساهمت في تشكيل شخصيتي في أبعاد محددة، كما أنها غيرت نظرتي تجاه أشياء كثيرة، فهي التي جعلتني أنظر للحياة نظرة مرنة، لا تخلو من التفكير العميق والتريث في اتخاذ أي قرار بخصوص الحكم على الأشياء.ومن اللافت لي شخصيا... أنني لم أسع في قراءتي للقصائد إلى ربطها بصاحبها بودلير، صاحب الفلسفة البوهيمية، غريبة الأطوار، ففي حقيقة الأمر لم تكن تشغلني مثل هذه الأمور، لأنني كنت أحلق مع الفكرة، التي خرجت من شاعر، ومن ثم لم أكرس تفكيري في البحث عن الشكل الذي ارتضاه هذا الشاعر لنفسه ليظهر به على الملأ، لكنني كنت أكرسه لهذه القصائد الخالدة، وما فيها من تفكير وعمق، وسوداوية في بعض الأحيان وانفراجة أمل تكاد تكون ضئيلة إلا أنها كانت كافية كي تكشف لنفسي عن الوجه الحقيقي للحياة.ولا أعرف ما الذي دفعني لقراءة الديوان منذ أسبوع تقريبا، بعدما أهملت قراءته أكثر من خمس سنوات... لأجد أنني لم أتمكن من تحديد مشاعري تجاهه، خصوصا وأن هذه المشاعر مرّت بمتغيرات كثيرة، عقب قراءتها، ولكني كنت قد بلورت فكرتي سريعا، ومشيت مع هذه الفكرة، التي أرى أنها تكرس لمفهوم القصائد، وهو مفهوم رمزي، يجنح إلى الواقع- عكس ما يرى الكثير من النقاد- وهو واقع انغمس فيه بودلير لدرجة أنه لم تكن لديه قدرة الخروج منه، حتى وهو يكتب الرمز والتجريد، ويجادل مشاعره التي تميل إلى الغموض، ويتصارع مع طواحين الهواء، ويتلذذ بالفقد والعذاب، وينعم بالألم في شدته وصلابته.وبعيدا عن تحليل ما يحتويه الديوان من مفردات شعرية موغلة في العمق، وما تتصف به من رمزية وغموض يدفع الذهن إلى الدخول في مغامرة فكرية غير محدودة، فإنني أرى في الديوان سيرة إنسانية تستحق التأمل، والولوج في أحداثها، ليس فقط من أجل المتعة، ولكن من أجل العثور على الإنسان في أدغال الواقع، وبالتالي الكشف عن آلامه وانكساراته، ومن ثم العثور على أمله الذي يوجد في يأسه، وعن نجاحه المتستر خلف ضباب فشله... هذه هي رؤيتي باختصار لديوان «أزهار النار» لبودلير.* كاتب وأكاديمي في جامعة الكويتalsowaifan@yahoo.com
مشاركة :