مشرط الطبيبات أكثر أمانا على أرواح المرضى طبيبات عربيات يثبتن كفاءتهن في اختصاصات كانت حكرا على الرجال، ويحدوهن إصرار على قهر الأمراض وعلاج آلام الناس وتوريث الأجيال القادمة كنوزا من الخبرات والمعارف الطبية.العرب يمينة حمدي [نُشر في 2017/05/21، العدد: 10639، ص(20)]المشاعر المتدفقة تشفي المرضى أكثر من الأدوية يحفل التاريخ بالعديد من الأسماء لطبيبات قدّمن خدمات صحية وطبية جليلة لمجتمعاتهن وكرّسن أنفسهن لخدمة الإنسانية عبر عملهن الدؤوب في سبيل تطوير المجال الطبي واكتشاف الأدوية وعلاج الكثير من الأمراض. وتاريخيا يختلف الأمر كثيرا عندما نتحدث عن إنجازات الطبيبات بالمقارنة مع إنجازات الأطباء، وذلك راجع إلى العراقيل الاجتماعية والدينية والثقافية الكثيرة، التي تضافرت بقصد أو عن غير قصد، لجعل إسهامات النساء في مجال الطب محدودة، علاوة على الصعوبات المهنية التي وقفت في طريق إثبات الطبيبات جدارتهن وتحقيق المزيد من الإنجازات. ورغم أن النساء منعن من ممارسة العمل الطبي لعهود طويلة، إلا أن عملهن كمساعدات للأطباء كان منتشرا على نطاق واسع في أماكن متفرقة من العالم، وكانت أدوارهن المعلنة طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مقتصرة على الرعاية الصحية كالقبالة والتمريض، مما أكسبهن حق الانتساب لمؤسسات التعليم الطبية في العديد من الدول، ومع بداية القرن العشرين سمح لهن فعليا بدراسة الطب وممارسته.إيمان سبيتي: المجتمع ينظر للطبيبة على أنها غير مؤهلة ولا تستطيع إجراء الجراحة. أما اليوم فقد أتاحت معظم بلدان العالم فرص التعليم الطبي للجنسين بالتساوي، إلا أن الرجال ما زالوا يشغلون أغلب الاختصاصات الطبية وخاصة الجراحية منها، ويحصلون على أعلى الأجور وجلّ الترقيات بمختلف المؤسسات الصحية. وفي الكثير من البلدان العربية لم تنتقل المساواة في التعليم الطبي بين الذكور والإناث إلى مساواة فعلية في قطاع العمل، ورغم الازدياد الكبير في عدد الطبيبات إلا أن أغلبهن ما زلن يعانين من التمييز القائم على أساس الجنس، وتفرض على النساء سلطة العادات والتقاليد اختصاصات طبية معينة تجعل نجاحاتهن غير مرئية للعموم. كما تواجه الطبيبات تحديات بالجملة من أجل إيجاد توازن بين مهنتهن التي تتطلب مجهودا كبيرا ووقتا طويلا، وبين مسؤوليتهن الأسرية التي تمثل حجر الأساس في حياتهن ككل. ولكن كل ذلك لم يمنع الطبيبات من تقديم أفضل رعاية صحية للمرضى، وهذه الحقيقة دعمتها العديد من الدراسات التي أظهرت أن الوفيات بين المرضى الذين تعالجهم الطبيبات أقل من الذين يعالجهم الأطباء. وتقول الأبحاث إن الطبيبات يبدين صرامة أكثر من الأطباء في الالتزام بالمبادئ التوجيهية السريرية، ويقدمن المزيد من الرعاية الوقائية، ويتواصلن أكثر مع المرضى مقارنة بالأطباء الذكور. التحدي الكبير وتبدو التخصصات الجراحية رغم صعوبتها وندرتها بين النساء ذات مذاق خاص لدى الطبيبات، ما يجعلهن يتغاضين عن العراقيل ويقدمن الكثير من التضحيات. وقالت الطبيبة اللبنانية إيمان سبيتي المختصّة في جراحة الأورام في حديثها لـ”العرب” إنّها واجهت الكثير من العراقيل في سبيل تحقيق حلمها كطبيبة جراحة، إلا أن التحدّي الكبير الذي ما زال يمثّل عائقا في طريق ممارستها لمهنتها هو عدم تقبل مجتمعها لفكرة وجود نساء في قسم الجراحة، مشيرة إلى أنّ ممارسة المرأة للجراحة لا ينظر إليها المرضى بارتياح كبير كما هو الشأن بالنسبة إلى الرجل.مي حمدي السيد: الأهم داخل غرفة العمليات الواجب الإنساني الذي لا جنس له. وأوضحت سبيتي “المجتمع ينظر للمرأة على أنّها غير مؤهلة للنجاح في مهنة الطبّ الجراحي لأنّها تتطلب استعدادا نفسيا وعملا دؤوبا وشاقا، وأغلب الناس يعتبرون أنّ المرأة غير قادرة على اتخاذ القرارات الحاسمة في شأن حالات المرضى الصعبة والتي قد ترتبط وفق تصوّرهم بالرجل دون غيره”. وأشارت إلى أن دعم أهلها كان أكبر دافع لها لخوض غمار هذا المجال وتحقيق طموحها في أن تكون طبيبة جراحة، إلا أنها أكدت أيضا أنها لاقت رفضا كبيرا في محيطها الاجتماعي، وخاصة في الأوساط الطبية، والمؤتمرات العلمية التي ما زال فيها حضور المرأة باهتا. وأوضحت “البيئة العلمية في الجامعة الأميركية التي درست فيها كانت تنظر إلى وجودي على أنه أمر طبيعي نظرا لأن عددا كبيرا من الجراحين تلقوا تدريبا عمليا في أميركا وأوروبا على أيدي نساء جراحات، وهذا أسهم في الحد من النظرة الدونية للمرأة، والنظر إليّ وإلى بنات جنسي باحترام وترحيب”. وتكافح الكثير من النساء العربيات من أجل تحقيق مبدأ المساواة بين الجنسين الذي ما يزال مطلبا صعب المنال، خاصة في ظل سلطة العادات والتقاليد التي تحدّد أدوار الرجال والنساء منذ الصغر. إلا أن البيئة الأسرية التي تربّت فيها الدكتورة مي حمدي السيد أستاذة أمراض القلب بجامعة عين شمس المصرية كانت ملهمة لها، فقد حفّزتها على اختيار مهنة كانت النساء حتى وقت قريب مستبعدات منها. وقالت أستاذة أمراض القلب لـ”العرب” إنها أصبحت تحظى بتقدير وثقة الكثيرين من أساتذة القلب في بلادها، مشيرة إلى أن تخصّصها في جراحة نادرة يعتبره البعض غريبا على رقة وأنوثة المرأة، ولكنه ليس جديدا على أسرتها، فهي ابنة الدكتور حمدي السيد أشهر أساتذة أمراض القلب في مصر، كما أن شقيقتها الدكتورة منال حمدي السيد تدير مشروع “أطفال بدون فيروس سي” في وزارة الصحة، أما شقيقتها مهيرة حمدي السيد، فقد اختصت في الأمراض الجلدية والتناسلية. وأضافت “الفضل يرجع إلى والدي الذي شجعني على التميز في تخصّصي ودعّمني، وحثّني على ضرورة أن تكون خدمة المرضى شغلي الشاغل، إلا أن ذلك لم يجعلني أهمل مظهري، فالمظهر يدعم قوة الشخصية ويجعل الإنسان واثقا من نفسه، وأيضا يكسبه ثقة واحترام من حوله”.شيرين الشاذلي: خلف بريق مهنة الطبيبة الجراحة هناك الكثير من الصعوبات المخفية. وأوضحت “أنا مثل كل امرأة عاملة يمكن أن تجعلها كثرة المسؤوليات عاجزة عن التوفيق بين بيتها ومهنتها، ولكنني أعتبر نفسي محظوظة جدا لأنّ تفهّم أسرتي لدوري ساعدني كثيرا على تحقيق النجاح المهني والاستقرار العائلي”. وشدّدت على أنّ مهنة الطب لا تتعارض مطلقا مع طبيعة المرأة السيكولوجية ورقة مشاعرها، فأهم شيء من وجهة نظرها يجب أن يتوفر في الطبيب الجراح هو الذهن المتيقظ والعقل الواعي والقلب المرهف الذي يجعله يشعر بمعاناة المرضى. ولفتت في خاتمة قولها إلى أن داخل غرفة العمليات وأمام المريض ليس الأهم جنس الطبيب، بل الواجب الإنساني الذي يبقى دائما وأبدا لا جنس له. أما رأي الدكتورة شيرين الشاذلي الأستاذة المساعدة في أمراض النساء والتوليد بكلية الطب البشري بجامعة الزقازيق، فلا يختلف كثيرا عمّا قالته زميلاتها في المهنة عن الصعوبات التي يواجهنها في سبيل المواظبة على العمل في مجالاتهن، خاصة بعد أن يتزوّجن ويصبح لهن أطفال وعائلات، غير أن الشاذلي استطاعت أن تجد حلا وسطا ساعدها على التوفيق بين واجباتها تجاه عائلتها والتزاماتها نحو مهنتها. وأوضحت الطبيبة المصرية في حديثها لـ”العرب” أن خلف بريق مهنة الطبيبة الجراحة يوجد الكثير من العوائق والصعوبات المخفية عن عامة الناس. طبيعة المرأة وقالت الشاذلي “مازال الكثيرون في مجتمعاتنا العربية غير مقتنعين بفكرة أن الطبيبة الجراحة لها نفس كفاءة الطبيب الجراح، فعلى سبيل المثال في اختصاصي المتعلق بأمراض النساء والتوليد المرتبط بالمرأة تحديدا، ربما يجعلكم تفترضون بأن المرأة قد تفضل الطبيبة التي من جنسها، ولكن في الواقع ما يحصل هو العكس، فأغلب النساء يفضلن الرجل الجراح لاعتقادهن أنه أفضل، على الرغم من أن كلاّ من الرجل والمرأة يملكان مؤهلات متماثلة ولا يمكن التفريق بينهما، ولكن الاختلافات بينهما سببها البيئة الاجتماعية”. وأوضحت “بالنسبة إلى تجربتي الشخصية لقد تمكّنت من تحقيق المعادلة الصعبة بين عملي وأسرتي عن طريق تخصيص ثلاثة أيام للعمل، أما بقية أيام الأسبوع فخصصتها للعناية بأسرتي، ولا أنكر أيضا أنني وجدت تعاونا وتفهما كبيرين من جانب زوجي لطبيعة عملي، وهذا ساعدني بالتأكيد على إثبات كفاءتي في العمل دون الإخلال بواجباتي المنزلية”.نهى سالم الجعفري: الطبيبة لا تنقصها الكفاءة العلمية أو مهارة اتخاذ القرارات الحاسمة. ويعتمد البعض من الطبيبات على استراتيجية تفادي الاستماع إلى الأصوات المحبطة في أوساطهن الاجتماعية والمهنية، ويوجهن اهتمامهن للعمل، من أجل تقويض المعتقدات السلبية الشائعة عنهن وإثبات جدارتهن في المجالات التي اخترنها. وتسعى الدكتورة الفلسطينية نهى سالم الجعفري أخصائية أمراض النساء والتوليد والجراحة إلى عدم الاكتفاء بدور الطبيبة فحسب، بل تحاول جاهدة التواصل مع مريضاتها والإحاطة بهن صحيا ونفسيا بشكل أكثر فعالية، وحتى بعد أن هاجرت واستقرت في ألمانيا أنشأت لمريضاتها في العالم العربي صفحة خاصة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، لتكون قريبة منهم وتمدهم بالنصح والإرشاد من حين إلى آخر. وأكدت الجعفري التي شغلت أيضا منصب عضوة بالجمعية الأميركية الأردنية للمولدين لـ”العرب” أنها ليست مجرد طبيبة نسائية يقتصر دورها على فحص المريضات ومدهن بالعلاج، بل تربطها بكل مريضة وعائلتها علاقة وطيدة. واعتبرت الطبيبة الفلسطينية التي اشتغلت لسنوات طويلة في مستشفيات الأردن، ثم أنشأت عيادتها الخاصة في سوريا وعملت فيها طيلة 12 عاما، وبعدها فتحت عيادة أخرى بالأردن وعملت فيها مدة سنتين، أن المجتمعات العربية تنظر للمرأة الطبيبة على أنها غير قادرة على القيام بمهامها الطبية على أكمل وجه، وخاصة فيما يتعلق بالجراحة. وأوضحت “رغم المساواة في التعليم الطبي لا تزال هنالك فئات تعتبر الطبيبة الجراحة أقل كفاءة، وهذه الأفكار مترسبة في العقلية العربية منذ زمن بعيد، حين كان التعليم الطبي مقتصرا على الرجال، أو لعلها بسبب النظرة الدونية للأنثى التي تعتبر المرأة أضعف جسمانيا ونفسيا ولا تستطيع تحمل مسؤولية هذا العمل”. وأضافت الجعفري “الطبيبة لا تنقصها الكفاءة العلمية أو مهارة اتخاذ القرارات الحاسمة، ولكن للأسف الأفكار البالية ما زالت متراكمة في عقول المرضى إلى اليوم، وما زلت إلى يومنا هذا أتذكّر أمي التي برغم ثقافتها وتعليمها، قالت لي عندما باشرت عملي في اختصاصي هذا إنها لا تتخيل أنني المرأة الرقيقة قادرة على القيام بعملية توليد الحوامل إلا أنني أكدت لها أن الموضوع يتعلق بالمهارة”. وأوضحت “صحيح أن هذه النظرة الدونية للمرأة الطبيبة أصبحت الآن أقل من ذي قبل، ولكننا مازلنا بحاجة ماسة إلى أن تتغير ثقافة المجتمع في النظر إلينا، وهذا لن يكون إلا إذا وثقت كل طبيبة بقدراتها وحاولت أن تثبت نجاحها وتميزها في مجالها”. وختمت بقولها “رغم كثرة المسؤوليات المهنية والأسرية التي تثقل كاهلي أحيانا، فحبّي لعملي يجعلني أسعى جاهدة للتوفيق بين جميع واجباتي كطبيبة وزوجة وأم لطفلين”.طارق بالحاج محمد: العنف الرمزي يعمل كآلية للفصل بين دور كل من الأنثى والذكر. المعادلة الصعبة ولكن من الواضح أن المشاكل التي ما زالت تعاني منها الطبيبات ترتبط أيضا بعدم ثقة البعض منهن في قدراتهن، وتخوفهن من منافسة الرجال في الاختصاصات الجراحية. وقال الباحث التونسي في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد في تصريح لـ”العرب” إن "يسود اتجاه متزايد في مجتمعاتنا العربية يقوم على اعتبار العمل الوسيلة الأهم لتحقيق الذات، ممّا جعل من الزواج والإنجاب في ذهن جل النساء والفتيات ليس رهان الحياة، وحسب هذه المواقف والاتجاهات يوفر العمل، ولا سيما الرفيع منه، على غرار طب الجراحة ميزة تفاضلية للنساء تمكنهن من الجمع بين أدوار الأمومة والزواج، ومن دون أن تعيقهن على تحقيق طموحاتهن الاقتصادية والدراسية والاجتماعية”. واستدرك “لكن بالمقابل قد تواجه الطبيبة الجراحة في بعض الأوساط الاجتماعية الرفض والانتقاد، نظرا لخصوصية هذه المهنة التي يراها البعض منافية للأنوثة والرقة”. وأضاف بالحاج محمد “هذا النوع من سوء الفهم والمعارضة مرده الثقافة القائمة في المجتمع التي تفرض معاني دون غيرها وتبيح أشياء دون أخرى، فهي من يقوم بترتيب الأدوار بين الجنسين، كما تحدد وترتب أدوار المرأة والرجل على أساس اجتماعي، وترتبها ترتيبا سلطويا، حيث يمارس الرجل القوة والسلطة والمبادرة على المرأة، في حين يقتصر دور المرأة على الرضا والخضوع″. وأوضح “تقوم سيطرة الرجل وتبعية المرأة حتى في مستوى الأحاسيس والمشاعر على أسس عقائدية ومادية، فالنزعة الأبوية متجذرة في القواعد الاجتماعية والثقافية، كما ترسَّخ وجودها في الهياكل القانونية والسياسية، وغرست جذورها في جميع المجالات التي تنظم علاقة المرأة بالرجل. وحُفرت ونقشت في صفحات الأيديولوجيات والخطابات الرسمية والشعبية بدرجة يصعب الفكاك منها”. وواصل “هذه النزعة الأبوية تقيد خيارات المرأة وتمنع مبادرتها حتى في أكثر المواضيع والمجالات حميمية وشخصية ومنها الدراسة والعمل في مهن معينة. إنه في النهاية نوع من العنف الرمزي الذي يعمل كآلية للمحافظة على الحدود لدور كلّ من الذكر والأنثى في المجتمع”. وأضاف الباحث التونسي “القواعد التي تحكم الأدوار بين الجنسين ربما تعبّر عن قوانين أخلاقية أو توقّعات اجتماعية راسخة في أذهان الناس على نطاق واسع، دون أن يكون من يمارسها مقتنعا بها. وهذه المواقف والتصورات تجعل البعض من الرجال يعتبرون مهنة الجراحة مهنة رجالية لا تليق بامرأة والتي لا يجب على أيّ سيدة محترمة القيام بها. وحتى وإن قبلوا بها في المطلق فإنهم لا يريدون أن يرتبطوا بها في علاقة زواج". كاتبة من تونس مقيمة بلندن
مشاركة :