خلال بروفات التخرج كان يستعجل بقية الأيام القليلة التي تفصله عن تحقيق حلمه بالتخرج برتبة ضابط في سلاح البحرية، وإكمال مشواره في الحياة كأي شاب في بداية عقده الثاني. يتطلع بشغف إلى أن يعمل محاربًا يخدم وطنه، يتقلد المناصب من رتبة إلى أعلى،و تزيد النجوم على كتفيه، يعتزُّ ويفخر بها بين أهله وأصدقائه، وبعد ذلك يحرُّكه الشوق إلى البحث عن فتاة أحلامه، ودارٍ تضمهما معًا، كان ينظر إلى البحر وهو يقود سيارته، البحر الذي عمل به وعشقه. ولا يمل أبداً هدوءه وهيجانه، سحره وغموضه،كان البحر آخر شيئ رآه قبل أن يفاجئه مالم يكن في الحسبان،فما بين رمشة عين وانتباهتها يتغير كل شيء،تنقطع الأحلام، ويموت الطموح. أراد الله سبحانه وتعالى أن يتعرضلحادث مروري مروع كاد أن يفقد حياته على أثره، دخل في غيبوية ولم يفق إلا وهو على السرير الأبيض في حجرةبالمستشفى، يستقبله أحد الأطباءويخبره بحزن وأسى بأنه سيقضي بقية حياته سير شلل رباعي . يقول بطل قصتي، ها أنذا أشاهد التلفاز، اليوم حفل تخريج زملائي في الدفعه، أعلم كل حركة سيؤدونها خلال الحفل،ألم أشارك في بروفات التدريب على الحفل؟ تابعت فقرات الحفل وأنا على السرير لا حول لي ولاقوة، أنظر في زاوية غرفتي إلى الكرسي المتحرك الذي أصبح أنيسيورفيقي الوحيد، الذي سألازمه طوال ما تبقى من حياتي. لم ييأس هذا الشاب، ولم يمت الأمل في داخله، فقرر بعزيمة قوية السفر بحثًا عن علاج في جمهورية التشيك، لم يتجاوز عمره حينها21 عامًا، أطل ما نافذة الطائرة ينظر إلى الأفق البعيد محدثاً نفسه، هذا كله لم يكن بالحسبان! أي غربة تنتظرني هناك؟ وأي وجع سأعيشه كل يوم،في جمهورية التشيك تفاجأ بأن غالبية الشعب لا يتحدثون اللغة الإنجليزية، وهو يجهل لغتهم،فعزم على الانخراط على تعلم اللغة التيشيكية وإجادة خلال الفترة التي سيخضع فيها للعلاج، مرت سنوات سبعفي علاج مكثف ثم عاد إلى الوطن بصحبة وصديقه الوحيد .الله يحبني ـ هكذا حدَّث نفسه ـحين أختار لي ذلك، وإرادته غالبة والخير فيما يختاره، أغمض عينه مستعرضًا شريط ذكريات مؤلمة، حادث قلب حياته رأسًا على عقب، غربة وعلاج. وتساءل: كيف انهار كل شيء في دقائق معدودات، لحظات تحول فيهامن ضابط على وشك التخرج في الكلية البحرية إلى مقعد عاجز،تأوَّه بنفس عميق، وهو يناجي ربه: أين تكمن الخيرة يا الله؟ أرني ياربي خيرتك في مستقبلي وأيامي القادمة؟ ولأنه اكتسب صفة محارب؛ فقد خاض أعنف معركة في حياته الجديدة، معركةمع اليأس، كانسلاحه أمل يمتطيه على جواد من إصرار وعزيمة، حتى تمكَّن من هزيمة خصمه والانتصار عليه، رفع راية الإرادة فدحر يأسه، وذلك حين فكر في استثمار ذكائه وقدرته على التخطيط في التجارة، ولمَّا كانت البدايات تتعثر في الغالب، عانده حظه ولم يبتسم له، فشلت مشاريعه الأربعة الأولى. وبعد المحاوله الرابعة طرقت أذنيه كلمة:”أنت تاجرفاشل”، وبدلاً من أن تحبطه؛ شكَّلت له وقوداًدفعه إلى الإقدام على المحاولة الخامسة، فاقتحمها بروح محارب ليبدأ تجربته مع مشروعه الخامس،مشروع انبثقت فكرته من معاناته في غربة العلاج الطبيعي التي دامت 7 سنوات. ولأن نتائج هذا النوع من العلاج تستغرق وقتًا طويلاً كي يظهر أثرها الإيجابي على المريض، ولأنه تذوق مرارة البُعد عن الوطن والأهل، وانتابه شعور الغربة المؤلم مقترناً بفراق الأسرة والأحبة والأصدقاء. ولذلك آثر ألا يجعل المعاناة تنتقل إلى غيره من مصابي الحوادث وغيرها،فقرر على الفور إحضار التشيك إلى وطنه، لينعم المرضى بالعلاج وهم بين أحبتهم دون تكبد مشقة ووعثاء السفر، فشرع في تنفيذ فكرته بافتتاح المركز التشيكي للعلاج الطبيعي. وخصص مقاعد محدودة لأصحاب الدخول المحدودة لتلقي العلاج بالمجان، وتقلَّد هو الرئيس التنفيذي للمركز، يجلس مع طالبي العلاج يكلمهم، ويتفهم معاناتهم، ويساعدهم بخبرته على اجتياز العقبات، ويشاركهم قصته ورحلته مع المعاناة، باعثًا في دواخلم روح الأمل وتجدُّد الحياة. في عام 2012 فاز بطل قصتنا سلمان بن ضيف الدعيجاني بجائزة أفضل مشروع على مستوى المملكة ، بعدهاطرأت له فكرة تنفيذ مشروع جديد،فقرر تأسيس ملتقى إعلامي لأصحاب الإعاقات المختلفة. فأصدر مجلة القادة (leaders مستهدفًا منها أنتكون موئلاً ومتنفسًا لهم، يتبادلون على صفحاتها خبراتهم ومشاكلهم، ويجدون إجابات علمية على جميع تساؤلاتهم، وشكَّلت المجلة أول منبر لذوي الاحتياجات الخاصه يُسمع أصواتهم للعالم . وفي أحد الأيام، وبينما كان يمارس عمله بالمركز، أحسَّ بضيق حاد في التنفس، ثم وقع من على كرسيه، ولكن بفضل الله ولطفه أن يكون بجانبه آخرون كثرٌ، فيهبُّون لمساعدته وإسعافه،فخلَّفت تلك الحادثة أثرًا كبيرًا في نفسه. وأوحت له بالتساؤل عن أوضاع ذوي الإحتياجات الخاصة المنعزلين عن المجتمع، الذي يقضون معظم وقتهم في وحدة مملَّة، وأعمل عقله في محاولة لإيجاد إجابة على السؤال،لابد من مشروع يدفعهم إلى الاختلاط بالمجتمع من جديد،فيعيشون الحياة مع الآخرين بدلا من البقاء على شرفة الحياة يتحسرون على أيامهم وهي تجري وتضيع من بين أيديهم، فأطلع أحد أصدقائه على فكرته طمعًا في مشاركته إياها. فقال له الصديق: ” ماباقي يا سلمان إلا أن تطلعهم من بيوتهم؟” ، وهذا فعلاً كان محور فكرته،فبإصراره على تغييرحياة كل شخص صاحب إعاقة، وتحويل المجتمع من معطَّل إلى مساند. أطلق مبادرة: “سلوكيات التعامل مع ذوي الإحتياجات الخاصة”استهدف منها تعليم أفراد المجتمع وتثقيفهم وزيادة وعيهم بكافة الإعاقات، وكيفية التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة. ثم أنشأ ـ من الناحية الأخرى ـ برامج تدريبية وتطويرية للمعنيين بُغية مساعدتهم على الاندماج في المجتمع، وتأهيلهم إلى العمل والاستقرار والاستقلالية، لتخليصهم من مآلات الشعور السالب بأنهم عالة أو عبء على غيرهم.ثم ابتدر بعد ذلك تطبيق للجوال بمسمى: “صديق”وكان الهدف منه تحويل ذوي الاحتياجات الخاصة إلى قوة شرائية ضخمة في المملكة العربية السعودية حالياً، وفي الخليج مستقبلاً،علماً بأن نسبة الإعاقة ـ وفق الإحصائية العالمية ـ تترواح ما بين 8% إلى 10% من عدد سكان العالم. وفي المملكة العربية السعودية لو أفترضنا أن عدد سكانها 20 مليون نسمة؛ فإن عدد ذوي الاحتياجات الخاصة يبلغ 1,600,000 ألف شخص. وتضمن الهدف من هذا التطبيق أيضًا، تسهيل حياة هذه الفئة وأسرهم من خلال التعاقد مع مختلف الشركات التي تخدم منتجاتها ذوي الإحتياجات الخاصة، و السماح لهم بإضافة 19 شخصًا، سواء كانوا أصدقاء أو من الأسرة للإستفادة مما تقدمه الشركات من خصومات قد تصل الى 70% . ويبلغ عدد الشركات الموجودة في التطبيق حالياُ 2000 شركة، ويستهدف التطبيق الوصول في نهاية عام 2017 إلى 50.000 شركة تقدم لهم ولذويهم كافة الخدمات بأسعار مخفضة. يقول سلمان: كان أبي ـ رحمه الله عليه ـ يردد دائماً الرجل مهما طال به العمر راحل، ولن يبقى بعد رحيله إلى ذكره الطيب، أسأل الله أن يكون ذكري طيبًا بين الناس . وكنت أردد هذا الدعاء معه، ولم أعلم أن الحادث ما كان إلا استجابة لدعائي، فبعده بدأت حياتي الحقيقية،إذ وهبني الله إعاقتي حتى أتذوق طعم معاناة زملائي ذوي الإحتياجات الخاصة حتى أسخر طاقتي ووقتي ومالي كي أوفر لهم جميع سبل الراحة من خلال جميع المشاريع التي نفذتها لخدمتهم، وسأجعل جميع أموالي بعد وفاتي وقفًا لهم وللفقراء. دائماً كن مبادراً وآمن بنفسك، و تذكر أن النجاح الحقيقي ماهو إلا الإنتقال من فشل إلى فشل دون أن تفقد الأمل، وتذكر دائماً أنك راحل من هذه الدنيا، فاجعل ذكرك طيباً فيها، وضع بصمتك في هذه الحياة ( سلمان ضيف الله الدعجاني). رابط الخبر بصحيفة الوئام: روان النويصر تكتب.. نهاية لم تكن إلا البداية
مشاركة :