هل ارتبط حكم الإسلاميين للسودان بتصورات عنصرية؟ (2)

  • 6/10/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ظل الموقف العملي للجبهة الإسلامية (1985-1989) من جنوب السودان ملتبساً غامضاً، مهما تقدمت طروحات أمينها العام أشواطاً في الدعوة للحكم اللامركزي، منذ مؤتمر المائدة المستديرة، يصفه ترياقاً شافياً لعلل وأسقام الإقليم المضطرب بالنزاعات، إلا أن تلك الرؤية المتقدمة ظلت داخل أطر التنظيم خاصة بصاحبها، محصورة في دائرة التنظير لا تخرج إلى فضاء الواقع أو تجد من يعبر عنها مؤمناً بها دون الأمين العام. بل طغت عليها ممارسات، كلها سالبة لا تلقي بالاً للجنوب؛ ما حدا بالسيد الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، نحو أواسط عقد الثمانينات، إلى أن يتهم الجبهة الإسلامية صراحةً بأنها تعتمد سياسات تدفع باتجاه فصل جنوب السودان: "يعتبرون الجنوب عقبةً في طريق الإسلام ويطرحون إمكانية التخلص منه، وتتميز سياستهم فيه باللامبالاة وتصعيد المواقف دون أدنى اعتبار لخطورة ذلك على الإسلام والوطن على حد سواء..". سوى حالة الفوضى التي ظلت تنتاب أجهزة الإنقاذ وتظهر عجزها عن صياغة رؤى سياسية خاصة بإدارة الأزمة في الجنوب، فقد مضت وفود التفاوض منذ وقوع الانقلاب العسكري، تتحرك جيئةً وذهاباً بغير ما هدف محدد لا تحمل مواجهات سياسية متفقاً عليها، وإنما تركن في سعيها كاملاً لاجتهادات متعازلة سوى أنها غير متجانسة، فقد مضت "في حِندس تتصادم" حتى بلغت اتفاقية الخرطوم للسلام (1997) التي حملت كذلك، إثارة بالغة لاصطفاف عنصري فاحش داخل الصف الإنقاذي وتمايز بين الشمال والغرب. فقد أحيت ساعة التوقيع على الاتفاقية نزاعاً وجدلاً أثار لوقت طويل صراعاً طالما تمحور في التنافس على قيادة الحركة الإسلامية أو ترقي درج سلطة الإنقاذ نحو الرئاسة، لكنها الآن صراعات محتدمة تنزع ملف السلام من وزير يوالي تراتيب الحكم الاتحادي أو عضو في مجلس قيادة الثورة، لكنهما ينتسبان إلى الغرب لتحيله إلى وزير الخارجية -يومئذٍ- ثم النائب الأول ­­­­­­­­المنتسب إلى الشمال والذي مضى حتى لحظة التوقيع على اتفاق نيفاشا تراوده الأوهام القديمة ذاتها أن يعمّده إنجاز اتفاق سلام بطلاً قومياً ما يزال يرفعه حتى يمكنه من تمام إحكام قبضته على مقاليد سلطة الإنقاذ وقيادة الحركة. إذاً، فقد أفشت تلك العناصر شبهة أن الأمين العام للحركة الإسلامية يعمل على ضرب العناصر الشمالية في قيادة الدولة والحركة بإحكام تحالفه مع القادة من الغرب؛ ومن ثم مضت العناصر ذاتها تروّج لما صوّرتها خطة استراتيجية تقدِّم غالب قادة ملف السلام من غرب السودان تعدُّهم لتمام القضاء على هيمنة الشماليين الذين يمسكون بتمام مفاصل سلطة الإنقاذ واقتصادها. نحو خواتيم عقد التسعينات، من بعد تمام التمكن في السلطة، تشكلت الرؤى حول قضايا السياسة والحكم داخل الصف الإنقاذي وبدت واضحةً معالمُ خلاف عميق بين الأمين العام للحركة الإسلامية ورئيس الجمهورية، وآخرين من دونه يمدُّونه باللجاج ويستخفّون من وراء حجاب. لكن، مهما أشتد السجال حول مسألة اختيار ولاة الولايات؛ يختارهم شعب الولاية اختياراً حراً مباشراً أم يتم تعيينهم من قِبل المركز- فإن القضية الأساسية كانت حول تمام إنفاذ الحكم الاتحادي طريقاً نحو التخلص من تركة الإدارة الاستعمارية التي ورثتها العهود الوطنية جميعها، تقبض كل السلطة لمركز واحد أخفق على الدوام في قسمة عادلة لموارد البلاد وتنمية أقاليمها. إذاً، فقد انهارت رؤية الحركة الإسلامية في الحكم الاتحادي؛ إذ لم تكن قناعات الشيخ الترابي تشكل قاعدة للتنظيم، وهو الذي فكّر وكتب كثيراً عن الحرية والشورى والسياسة والحكم، لكن جملة ممارسة الحركة في كل تلك القضايا تقاصرت وتقاعست عن تمام إدراك مقاصده، لا ترقى لأن تقارب مستوى ما كتب وأنتج من رؤى وأفكار. وإذ لم تستبن النخبة الإنقاذية أن أزمة الجنوب هي وجه من وجوه أزمة الحكم المركزي، فإنّ الدكتور جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، كان شديد الوعي بهذه المسألة وهو يخاطب مؤتمر سدّ كوكا أواسط التسعينات الذي ضمَّ إلى الحركة الشعبية كذلك التجمع الوطني الديمقراطي: "إن مشكلة السودان تتعلق بالسلطة السياسية لا بالتنوع الثقافي، أعتقد أن مسألة المركزية هي المشكلة الأساسية للسودان.. إن الأنظمة المختلفة منذ الاستقلال التي جاءت ورحلت في الخرطوم فشلت في توفير سمات مشتركة ونموذج وأساس للسودان كدولة..". كان خطاب د. جون قرنق تعبيراً عميقاً عن مشاعر الغبن والظلم الذي تستشعره قوى الهامش، ليس تلقاء الجنوب فحسب، وإنما إلى الغرب من السودان جهة دارفور كذلك. وجه آخر من وجوه السياسة العنصرية البغيضة أسفرت عنه الإنقاذ، حيث أظهرت اتفاقية السلام الشامل (2005) تياراً معارضاً لبروتوكولاتها جميعاً شكل لأول مرة كياناً جهوياً ينتسب صراحة إلى الشمال، لكنهم تداركوا خطأ التسمية الشنيع بالتحول إلى ما زعموا أنه منبر للضغط ينادي بالسلام العادل وهو يومئذ لا يجد في اتفاقية نيفاشا غير بنود شديدة الإجحاف بحق الشمال والشماليين. إلا أن المنبر، بغالب قياداته ذات الانتماء المشهور إلى الحركة الإسلامية، مضى مدفوعاً بعداء محموم للحركة الشعبية يعمل بجد لفصل الإقليم الجنوبي من السودان باعتباره إفريقياً زنجياً لا يتسق بدياناته وثقافاته وألسنته العجماوات مع بقية أجزاء السودان، لا سيما الإقليم الشمالي الذي يتحدر منه غالب قادة المنبر. وإذ ظلت تلك الدعوة نشازاً مستهجنة من كل القوى السياسية، إلا أنها مضت تستمد قوتها، من دوائر خافية، داخل النظام الإنقاذي، تتعهدها بالرعاية والحماية وتوظف لها منابر الخطابة والصحافة وتفتحها أمام قادة التيار الانفصالي قبل أن يؤسسوا صحيفة عنصرية كاملة مردت على الأعراف المهنية الإعلامية جميعها والتراث السياسي السوداني، الذي يجد الدعوة إلى فصل جزء من البلاد جريرةً وكبيرة من الكبائر الوطنية. وقد ظلت التهمة السابغة التي تلازم "منبر السلام العادل" منذ يوم التأسيس، أنه محض واجهة سياسية للمؤتمر الوطني أو مجموعة تتمحور داخله، أرادت توظيفه، ليتولى أعباء مواجهة الحركة الشعبية لتحرير السودان عوض المواجهة المباشرة التي تقيدها اتفاقية السلام الشامل؛ ومن ثم الانطلاق في الدعوة إلى فصل جنوب السودان إلى أبعد مدى دون أعباء سياسية يحملها الحزب الحكومي جراء تلك الدعوة، وهي التهمة التي جاهد أعضاء المنبر لنفيها قبل أن تتفجر الصراعات بلا سقوفات أخلاقية داخل منبرهم لتكشف جزءاً من الطبيعة التي تشكّل منها والعلائق التي تربطه بالنظام وقادته. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :