النسخة: الورقية - دولي أخيراً قدّم أوباما جائزة معنوية لائتلاف المعارضة السورية بالقول: «سأعمل مع الكونغرس لزيادة الدعم لأولئك الذين في المعارضة السورية يقدّمون بديلاً أفضل من الإرهابيين والديكتاتور الوحشي». أوباما لم يتخلَّ في خطابه هذا، في قاعدة ويست بوينت العسكرية بتاريخ 28/5/2014، عن نهجه الحذر إزاء الموضوع السوري عموماً، ولم يرسم توجهات جديدة حازمة، لكنها المرة الأولى التي يعلن فيها عن توفر البديل المقبول، بل الأفضل، لنظام الأسد. تصريح لعله لا يخلو من بعض المبالغة، فالسوريون لا يزعمون أن المعارضة السورية بكافة تشكيلاتها الحالية هي البديل الأفضل الذي يتوقون إليه، مع اتفاق معظمهم على استبعاد أن يكون أي بديل أسوأ من النظام الحالي. إلى حد كبير، يرى السوريون المعارضة بمثابة معارضة الأمر الواقع، مثلما النظام هو سلطة الأمر الواقع، فلا يد طولى لهم في الاختيار. في الواقع تتعرض تنظيمات المعارضة جميعاً لنقد حاد من قبل نسبة كبيرة جداً من المتابعين، وبخاصة في أوساط الثورة، نقد لا يخلو في العديد من الأحيان من المقارنة بينها وبين النظام، حيث يرى الكثيرون أنها ورثت عللاً أساسية من النظام، سواء على صعيد تهافت الأداء السياسي وتغلّب النوازع والمصالح الشخصية عليه أو حتى على صعيد الفساد المالي والإداري. بدوره، النقد الموجه إلى المعارضة لا ينأى بنفسه دائماً عن الوقوع في مطبات النظام، من حيث تركيزه على الجانب الشخصي ومساهمته تالياً في صرف الأنظار عن العيوب المؤسساتية، فتبدو العلة شخصية دائماً على منوال ما كرسه النظام من شخصنة للحكم. الجانب الأكثر حساسية وأهمية يتجلى في الآثار العميقة للحملات التي لم توفر أحداً، تحديداً في الوصول إلى الخلاصة القائلة إن «لا أحد أفضل من الآخر»، فالجميع سواسية لجهة فسادهم وتدني كفاءاتهم. من طرف خفي، لن يبقى لأحد منهم أفضلية أخلاقية على النظام، بل هم مرشحون محتملون للتصرف على منواله تماماً في حال تسلموا الحكم. من هذه الجهة، يصح القول إن الإدارة الأميركية، إذا كانت جادة هذه المرة، تأخرت جداً في تظهير البديل المقبول دولياً. تأخر قلل من مكانة الائتلاف في نظر غالبية الذين أيدوه في البداية، والسبب الأول قناعة الكثيرين بأن تشكيل الائتلاف كان في الدرجة الأولى حاجة دولية لعنوان معارض، وحينما لم يحصل هذا العنوان على الدعم الدولي المأمول تآكلت الثقة به، بالأحرى فقد وظيفته الأصل واتجهت الأنظار إلى عدم قدرته على جمع ما أمكن من تنظيمات الثورة في هيكلية سياسية وعسكرية موحدة. تجربة تذكّر أيضاً بتجربة المجلس الوطني من قبل، إذ نال حينها دعماً كبيراً من الثوار على أمل أن ينال دعماً مماثلاً من المجتمع الدولي، وسرعان ما فقد الدعم المحلي مع افتقاد نظيره الدولي. في الحالتين لم يتفهم المجتمع الدولي الوضع السوري جيداً، فهو طالب المجلس ومن بعده الائتلاف بتمكين نفسيهما داخلياً ليحظيا بالدعم، بينما لم تكن القوة المحلية لأيّ من الكيانين لتأتي إلا بالدعم الدولي المطلوب بإلحاح لحماية المدنيين. اللعب على فكرة البديل كان من أكثر العوامل سلبية على الثورة، معلوم أن النظام وحلفاءه هم أول من بدأ التركيز على غياب البديل المقنع، وعلى التلويح بالبديل الأصولي. لكن تلقف المجتمع الدولي الفكرة لتبرير تقاعسه كان له الأثر الأبلغ، فهو بدا كأنه يتبنى مواربة رؤية النظام، ويشكك بقدرة السوريين على إدارة شؤونهم بأنفسهم، تماماً كما يفعل النظام. الأسوأ هو التركيز على الحرب في سورية بوصفها حرباً أهلية، فقلما تعاطى معها المجتمع الدولي كثورة شعبية هدفها التخلص من الاستبداد، الأمر الذي يضمر أيضاً المساواة بين الأطراف المنخرطة فيها. ذلك كله لاقى استعداداً، حتى في بيئة الثورة أحياناً، لتقبل فكرة عجز السوريين وحاجتهم إلى نخبة معروفة ومتَّفَق على أهليتها للحكم. قد تبرر الفوضى، التي سبق أن أعقبت عدة ثورات، التفكير في البديل، أو تصنيعه، مع أن ما شهدناه منذ ثلاث سنوات ونصف السنة كان انفجاراً آتياً من الانسداد التام لأفق الأنظمة الحاكمة، وتعبيراً عن عجزها في اقتراح البدائل. ذلك لا يعني على طول الخط إيماناً من قبل الثائرين بفكرة الحرية، إذ من المعلوم أيضاً أن مَن خضعوا لاستبداد مديد يصعب على قسم كبير منهم تصور أنفسهم أحراراً يقومون بالوظائف ذاتها التي كان يقوم بها المستبد، ويقنعهم بعجزهم عن أدائها. هنا تتلاقى المخاوف الخارجية مع المخاوف الذاتية، وتتجه أنظار الطرفين إلى «حرية مشروطة» لا تقطع جذرياً مع النظام الحالي. شخصنة العمل السوري المعارض، وتقاذف الاتهامات بين أفراده، لا ينتميان فقط إلى نزوع إلى الاستبداد ونفور من الروح الجماعية والمؤسسية، هما تعبير عن انخفاض وعي الحرية بصفته تحقيقاً متكافئاً للذوات، لا تغليباً وهيمنة لذات على أخرى. أما النقد الشخصي الموجه إلى أفراد في المعارضة فيكاد جزء كبير منه ينتمي إلى الإقرار بأرجحية ما هو شخصي على المؤسساتي، وينتمي بعضه إلى إعفاء النفس من المسؤولية عن الأخطاء بإلقائها على الآخرين، تلك النفس التي لا ترى أنها جديرة أصلاً بتنكب المسؤولية. في أساس فكرة البديل، كما يُروّج لها الآن، انتقاص متفق عليه من قدرة الشعوب على أن تصبح حرة، مع مساهمة «جليلة» من الشعوب ذاتها في ترسيخ الفكرة. الأمثلة وافرة لمن يريد الاستدلال بمخاطر الفوضى وضرورة ضبطها، إلا أن التوظيف السياسي المباشر لها قد يبتذل التاريخ ويحاول قسره في آن، من خلال الوصاية التي يقيمها الماضي على الحاضر، أو يقيمها مثالٌ على آخر. في حالتنا السورية، بعد أن باتت الأولوية لإيقاف المقتلة، تتجه نسبة لا يستهان بها إلى التسليم بأي حل أو بديل يتم التوافق عليه خارجياً، تتراجع اشتراطات السوريين بقدر ما تتقدم الاشتراطات الخارجية. هذا لا يعكس بالضرورة، أو على طول الخط، تعباً من الحرب وأكلافها، ما دام السياق مترافقاً بتراجع فكرة الحرية والفردانية في أوساط تبدي حماسة فائقة للقتال.
مشاركة :