هي نصف حياة إذن بقلم: لطفية الدليمي

  • 5/31/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

هكذا هو قدر معظم النساء العابرات على أفقٍ من أحلام وتشوقات مكبوحة، نصف حياة وحسب وليس بوسع أحد أن يعيد لها ما تبدد ولا يجدي التأسي على ما تبقى.العرب لطفية الدليمي [نُشر في 2017/05/31، العدد: 10649، ص(14)] تكتشف المرأة -أيّ امرأة- على حين فجأة في منعطف يقظة أنها لم تعش حياتها أو أنها عاشت نصف حياة، ولا يقتصر الأمر هنا على النساء فحسب، فثمة رجال كثرٌ اكتشفوا في منعطف من حياتهم أنهم ما عاشوا سوى نصف حياة أو حتى ربع حياة، وأنهم كانوا يحيون على هامش الوجود الحقيقي لأسباب خارجة عن إرادتهم وخياراتهم ومنفصلة عن أحلامهم وأهواء القلب. صوت خافت قادم من الأقاصي، ربما من أعماق أعماقها يلومها ويردع فكرتها عن نفسها في محاولة مكشوفة لحجب الحقيقة التي باغتتها توّا وأربكت وجودها، تسمعه يردد في سكون روحها: لكنك عشت يا امرأة، عشت سنواتك وأنشأت عائلة وأنجبت وأنجزت ما أردت، تردّ المرأة على نبرة الصوت اللائمة: أنا لم أعش حياتي كما اشتهيت وكما تخيلتها أو صوّرتها لي الكتب وأحلامي وقصص النساء، حتى أنني كنت شبه خرساء فلم أقل ما تشهيت قوله أو ما كان يجب أن يقال. كنت أتأخر دوما في إظهار ردة فعلي وقول ما ينبغي قوله، لم أعلن حقيقتي يوما، لم أكن غير كائن مطيع خاضع لما أراده الآخرون أن يكونه، لم أمتلك الجرأة لأعترف لهم بأن الماثلة في المشهد لست أنا وأنني الأخرى التي ما كان بوسعها أن تصبح أخرى غير التي قولبوها في أطر من أحكام وإرادات ومفاهيم لا تخص قناعاتها. يعاود الصوت تكرار فكرته التي تسوّغ الخسران للمرأة التي أفاقت على فجيعة نصف الحياة: اسمعي يا امرأة هذه هي الحياة، لن تكون الحياة غير ما عرفنا وعرفتِ، لا شكل آخر لحياة بشرية وسط الناس غير الذي رأيتِ وعشتِ. تواجه المرأة نفسها، تصف حياتها وكأنها تجهد لإقناع عقلها بما ردّده الصوت اللائم: أجل عشت نصف حياة، شهدت نصف شمس ونصف نهار ونصف ليل طوال نصف عمري. نمت نصف نوم كل ليلة لأنهض بالمهمات التي أوكلت إليّ، وأفقت من كابوسي نصف إفاقة، ومضيت كالمسرنمة أتبع إيقاعهم الملزِم وصنعت ما أراده الآخرون منّي وما رسموه لي بدهاء العصور عندما أوحوا لي ببراهين ملفقة وأكاذيب منصوص عليها في التعاليم السرية بأنني اخترت حياتي وكأن لي حق الرفض والقبول بعد توقيع اتفاقية الانضواء في المنظومة العامة، حُبست فيما جعلوه قالبا لوجودي يلائم رؤيتهم عنّي وعن نمط الحياة ذلك النمط الذي لا يسبب لهم أذى أو فضيحة. تعترف المرأة للصوت، لهمهمات العقل المستفيق وهي تسمع حشرجة نحيب في نصف روحها (أجل أيها الصوت، لقد عشت النصف الذي كرّسني للتضحية والتعقل والمنح بلا حدود لأنال رضا الجميع). تدرك المرأة لعقلها المستفيق أن ذلك النصف المهدور كان محض رشوة متفق عليها ليتقبلوها ضمن القطيع والمنظومة المتحكمة بسيرورة الحياة المجتمعية، ذلك النصف صورتها المعلنة لتصبح الكائن المنمط المؤطر المقبول. نصف حياة أهدِرَت ونصف حياة تبقّى من محنة العيش وتجربة الوجود، تقول لنفسها: هكذا إذن هي حياة النساء وليس من خلاص سوى النهاية، كل امرأة تحيا نصف حياة وتطوي نصفاً آخر معطلاً لا يعود يجدي في شيء بعد انقضاء مدة الحكم المقرر لانتهاء حيوات النساء، هكذا هو قدر معظم النساء العابرات على أفقٍ من أحلام وتشوقات مكبوحة، نصف حياة وحسب وليس بوسع أحد أن يعيد لها ما تبدد ولا يجدي التأسي على ما تبقى. كاتبة عراقيةلطفية الدليمي

مشاركة :