الإجابة عن السؤال الصعب: مَن فجّر الربيع العبثي؟

  • 5/31/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

المتتبع للمشهد العبثي الذي آل إليه الربيع العربي، سيلاحظ بوضوح أجواء التشفّي، بل والسخرية الغربية من هذا الربيع المزعوم، والذي على أرجح الظن أنه حِيك بليل من قِبَل النظم الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بالتنسيق مع أجهزة استخبارات دول الموالاة ذاتها التي تفجّرت فيها تلك الثورات كمصر وتونس واليمن، ليس بغية هدم النظم القائمة، ولكن بغية ترميمها وإعادة تماسكها بعدما أصابها الترهل والعطب وأوشكت على الانهيار الذاتي جراء تضارب مصالح شبكات الفساد وتضخمها. وتجري عملية الترميم تلك من خلال عمليات تبديل واسعة في الوجوه، مع إعادة إنتاج الأحزاب الكرتونية القديمة بمسميات ووجوه جديدة من رعيل الصف الثاني والثالث، بما يبدو معه المشهد وكأن ثورة حدثت، وإرادة الشعب حكمت، وذلك دون تغيير يذكر في الفكر، في محاولة خداعية تأخذ بصمة شعبية، تقول إن الشعب وصل إلى ذروة التغيير الذي يريده ورسم طريقه بنفسه، غير الوجوه المتحجرة القديمة بأخرى شابة. وحتى هذا التغيير الشكلي الأجوف المتمثل في انتقال السلطة من الرعيل الأول للحزب الحاكم، تحت أى مسمى، من العواجيز إلى الشباب تم النكوص عنه في مشاهد كثيرة في الربيع العربي المغدور، بينما فكر النظام القديم الذى عادة يتمترس حول إضفاء التقديس على الحاكم والإسراف في "غيبيات الأمن القومى" عاد مع نفس النظام، ولكن أكثر تزمتاً وعنفاً وإجراماً وقيداً للحريات وإهداراً لحقوق الإنسان بما يحمل بصورة واضحة سخريةً من شعوبنا وشماتة في ربيعنا! ويتجسد هذا التشفي وتلك السخرية من خلال استعراض هذه المشاهد الكاشفة، فثورة الشباب في تونس التي كانت باكورة ثمار هذا الربيع تمخضت عن رجل تسعيني قضى من العمر أرذله، والمصريون الذين خرجوا ضد حكم العسكر في يناير/كانون الثاني، راحوا ينصبون "رئيس المخابرات العسكرية" وهو المنصب الذي يجسد عمود خيمة العسكر في أي بلد في العالم، رئيساً للجمهورية وقائداً ملهماً للقوى المدنية!! واليمنيون الذين خرجوا غضباً من الفساد والتمييز بين الشمال والجنوب، راح الحوثيون الشماليون يسيطرون على المشهد برمته شمالاً وجنوباً، كما أن ثمار انتخابات الرئاسة في الجارة الجزائر توضح المعنى وتقويه كما يقول علماء البلاغة. ولكن ما علاقة الغرب بما يحدث في بلدان ربيعنا؟ ومن أين جاء هذا الاتهام؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يتم طرحه وأن أجيب عليه. فالغرب راح يهلل لانتكاسات الربيع العربي عامة والمصري خاصة؛ حيث أضفى شرعية على الانقلاب العسكري في مصر، حينما سمح لقائد الانقلاب بالتجول بين مدنه، وتمثيل مصر في الأمم المتحدة، وحينما زمجر أوباما ثأراً لناشط يقول إنه مسّه ضر في عهد مرسي، بينما صمت صمت القبور عن قتل الآلاف وحرقهم والتمثيل بجثثهم، وعن اختطاف الديمقراطية ونحرها أمام العيان. حينما قال الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات إن 99% من أوراق اللعبة في يد أميركا لم يقلها من باب "طق الحنك"، ولكنه كان على الأرجح يقصد أن يقول إن بلادنا ليست مستقلة كما تتوقعون، وإننا ما زلنا بلداً مستعمراً انتقل من طور الاستعمار العسكري المباشر إلى الاستعمار غير المباشر، عبر مؤسسات أمنية وعسكرية وإعلامية وحقوقية، بل ونخبوية، ينتمى نافذون فيها للخارج، ثم استغل هذا الطرح الذي لم يقرأه كثيرون لوقعه الصادم على المتلقي الذي تربّى على زخم طويل من مهرجانات الاستقلال ثم مهرجانات الصمود ثم مهرجانات النصر، إلى طرح آخر استطاع الجميع قراءته وهو تعبيد الطريق لاتفاقية "كامب ديفيد" التي تعني بشكل يسهل اكتشافه الإذعان لمطالب إسرائيل وجعل سيناء رهينة لها تحكمها "عملياً"، بينما تحكمها مصر "نظرياً"، بل إن هذا الجانب "النظري" متى شاءت إسرائيل أن تسترده أيضاً فلن يكلفها الأمر إلا عشيةً وضحاها. والحقيقة أن الاستعمار غير المباشر هنا ليس محصوراً في التحكمات الاقتصادية الغربية فحسب، بل يتعداها لمستويات أخطر بكثير، فالاستعمار هذه المرة نَصَّب بعضاً منا يحكموننا لصالحه نيابة عنه، ذلك مروراً بأسلحة نستوردها منه يستطيع هو أن يعطبها في مخازنها، متى كان استخدامها ليس على هواه، وذلك من خلال التحكم بشفرات تتصل بها أقماره الصناعية التي تملأ الكون، وهو ما يقال إنه حدث في المشهد العراقي ومن بعده الليبي، ما يجعل عملية التسلح في بلداننا عامة هي بمثابة "انتصار للبائع" وليس للمشتري، فهو يبيعها ويحدد معها ضحاياها! ويقال إن بريطانيا تخلت عن مستعمراتها القديمة لأميركا عام 1951 فارتأت الأخيرة أن نظام الاستعمار العسكري القديم لم يعد مناسباً لروح العصر، فضلاً عن أنه باهظ التكلفة المادية والأخلاقية فراحت تتبنى هذا النوع من الاستعمار الحديث فيما يعرف بـ"النفعية والواقعية السياسية"، بحسب مؤسسه "نيقولا مكيافيللي". وكان مكيافيللي قد سرد لأميره ثلاث وسائل لغزو إحدى الإمارات المجاورة، وسرد مع كل وسيلة عيوبها. فنصحه بتجريد قوة كبرى لغزو تلك الإمارة، لكنه حذره من حدوث انقلاب عليه فى الداخل فيكون قد كسب أرضاً جديدة وخسر أرضه القديمة. وعرض عليه أن يجرد حملة كبرى بقيادة قائد الجيش ليغزو تلك البلاد، لكنه حذره من أن ينشق هذا القائد فيكون قد أنفق أمواله وجيشه على جيش العدو الجديد. وفي ثالث الاقتراحات، عرض عليه أن يذهب بجزء من قواته ليغزو تلك الإمارة فيستذل أكارمها وأغلبيتها، ويدلل حقراءها وأقليتها وينصَّب منهم حاكماً على البلاد بعد أن يجهز لهم حامية عسكرية تتبعه للتدخل وقت الحاجة، وقال له إن هؤلاء الأقليات سيناصبون شعبهم العداء، وسيقمعونه بأبشع ما يمكن أن تقمعهم أنت به، وسينهبون ثرواته ويعطونها لك تقرباً إليك؛ لأنهم سيحتاجونك دوماً لقمع شعبهم، فضلاً عن أنهم لو انتكسوا بفعل ثورة عارمة فلن يطالك من الانتكاسة شيء ويتحمل هؤلاء الخسارة كلها. وأخيراً.. ورغم كل مشاهد التراجع التي يعيشها الربيع العربي، فإنني على يقين بأن الثورة ستنتصر نصراً مؤزراً في نهاية المطاف؛ لأن روح الشباب ومثابرته أبقى من البارودة والزنزانة وأكثر حيلةً وحسماً منها، كما أن حيل الثورة المضادة القمعية لا تناسب روح العصر. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :