يأتي حصار المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم في شعب بني هاشم حلقة غليظة في مسلسل الجهود التي أجهدت بها قريش نفسها من أجل التخلص من الدعوة الإسلامية في مكة، ومنع خروجها إلى محيطها الجغرافي، لكن كل هذا الإيذاء والمبالغة في الكيد للإسلام، تهاوى أمام صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى، وإصراره مع أصحابه على الدعوة إلى الله، وحماية بني هاشم وبني المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم.فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقدوا معاهدة مكتوبة على ألا يجالسوا أحداً من بني هاشم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سبباً من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحاً، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتله، ثم جعلوا ذلك في وثيقة علقوها في جوف الكعبة توكيداً للعهد، وألا يخالف ذلك أحد. وهذه المعاهدة تجاوز فيها المشركون إجراءات الحصار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، إلى تقطيع أواصر العلاقات التي تربط بين بني هاشم وغيرهم من قبائل قريش، ووضعتهم ضمن دائرة العدو الذي تفرض عليه أساليب القهر والإذلال؛ إذ فرضوا على بني هاشم أن يهلكوا جوعاً، أو يسلموا محمداً صلى الله عليه وسلم، ليقتلوه. فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاماً يقدم من مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم. واشتد الحصار على الصحابة وبني هاشم وبني المطلب، حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، وحتى أصيبوا بشدة العيش وقسوته، إلى حد أن أحدهم يخرج ليبول فيسمع قعقعة شيء تحته، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها فيغسلها، ثم يحرقها ثم يسحقها ثم يأكلها ويشرب عليها الماء فيتقوى بها ثلاثة أيام، وحتى إن قريشاً كانت تسمع صوت الصبية يبكون من وراء الشِّعب من الجوع. لكن ذلك لم يوهن عزم بني هاشم، أو ينال من إرادتهم في حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الصبر عنواناً لهذه الفترة العصيبة التي اتضح فيها أثر التربية في النفوس التي تعهدها النبي صلى الله عليه وسلم بالزرع والنماء، حتى أثمرت في هذه الشدة، وكُتب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه النصر، وضاعت جهود كفار قريش هباء. وليس كل من كان في الشِّعب مؤمناً، فهناك من كان على كفره، لكنه جاد بنفسه من أجل حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لا تنال منه قريش، وبعض هؤلاء فعله عصبية للنبي صلى الله عليه وسلم وانتماء للقبيلة والعشيرة التي تجتمع على سياسة واحدة، ضد كل من يريد أن ينال من قبيلته، ولم تكن حماية للرسالة، أو الدعوة التي يدعو إليها.;
مشاركة :