د. أحمد سيد أحمد * يواجه العراق العديد من التحديات والمخاطر الكبيرة، فإضافة إلى خطر تنظيم «داعش» الإرهابي الذي يعيش آخر مراحله مع اقتراب انتهاء معركة الموصل، تصاعدت دعوات التقسيم لتضيف تحديات جديدة أمام البلاد، مع تعدد صيغ التقسيم التي بدأت تطل برأسها من خلال طروحات لأكثر من طرف، وكلها تحمل مؤشرات ليست في مصلحة وحدة العراق. إضافة إلى الجدل التقليدي حول انفصال كردستان، برزت مؤخراً مشروعات "الأقلمة" و"الفدرلة". فقد طالب أسامة النجيفي، نائب الرئيس، خلال تأسيسه حزباً جديداً باسم «للعراق متحدون»، بتحويل المحافظات العراقية إلى أقاليم، معتبراً ذلك الخيار الأفضل للحفاظ على وحدة البلاد، وأنه يتوافق مع الدستور العراقي. وبرزت دعوات عدة تطالب بتقسيم محافظة نينوى في مرحلة ما بعد «داعش» إلى خمس محافظات، مراعاة للتركيبة العرقية والطائفية، تشمل مركز الموصل ومحافظة تلعفر للتركمان، وسنجار للإيزيديين، وسهل نينوى وجنوب الموصل. كما تجددت الدعوات القديمة بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم كبرى للأكراد في الشمال، والسنة في الغرب والوسط، والشيعة في الجنوب إضافة إلى إقليم المركز في بغداد. دعوات التقسيم لم تنبع من داخل العراق فقط، بل طرحت أيضاً من خارجه من جانب الأطراف الدولية والإقليمية، فهناك توجهات في الولايات المتحدة لتنفيذ مشروع نائب الرئيس الأمريكي السابق، جون بايدن، بتقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات تجمع ما بين الشيعة والسنة والأكراد وفقاً للقانون الذي أصدره الكونجرس الأمريكي عام 2007، كما تبنى أعضاء جمهوريون وديمقراطيون في الكونجرس مشروع قرار يدعو إلى إنشاء منطقة آمنة للأقليات الدينية في سهل نينوى. وتدعم بعض الدول الإقليمية، مثل تركيا، وجود أقاليم خاصة بالتركمان السنة في شرق العراق. جدل التقسيم أخذ أبعاداً خطرة، وعكس توجهات واضحة لدى البعض تحت منطق الواقعية، ما ينبئ بمخاطر كبيرة على البلاد، وأصبح موضوع التقسيم محل جدل شديد ما بين الرفض والقبول، فقد رفض سليم الجبوري، رئيس مجلس النواب، بشدة خلال مؤتمر للتركمان عقد في بغداد، تطبيق فكرة التجزئة والتقسيم تحت أي تبرير. ورفض نوري المالكي، نائب الرئيس أيضاً فكرة الفيدرالية، كما توافق رئيس التيار الصدري مقتدى الصدر ورئيس التحالف الوطني عمار الحكيم على رفض إقامة نظام الأقاليم في نينوى، باعتبار أن التقسيم يؤدي إلى الدخول في حرب أهلية. في المقابل، يرتكز أنصار التقسيم على مبررات عدة، فالأكراد يصرون على إجراء الاستفتاء حول انفصال إقليم كردستان وإقامة الدولة الكردية، ويرونه حلاً لمنع الصدام مع الحكومة المركزية في بغداد التي يتهمونها بالتلكؤ في تنفيذ المادة 140 من الدستور حول تقرير مصير مدينة كركوك. في المقابل، ترى بعض الكتل السنية أن نظام الأقاليم في المحافظات السنية، مثل صلاح الدين والأنبار ونينوى ضامن للحفاظ على وحدة العراق من التقسيم، ومنع تكرار سياسات التهميش والإقصاء السابقة لبعض الفئات من العملية السياسية، التي استغلها تنظيم «داعش» الإرهابي للسيطرة على نصف مناطق البلاد عام 2014. والواقع أن تقسيم العراق يؤدي إلى العديد من المخاطر الكبيرة أبرزها: *أولاً: أن التقسيم بصيغه المختلقة، سواء انفصال كردستان، أو مشروعات الأقلمة والفدرلة، لن يكون حلاً لمشكلات العراق وأزماته، بل سيقوده إلى مزيد من التفتيت والصراع والحروب، سواء بين الأقاليم وبعضها بعضاً، أو ما بين الفيدراليات الثلاث، أو حتى داخل الإقليم الواحد، لأنه سيكون على أسس عرقية وطائفية، ما يدفع إلى سياسة التغيير الديموغرافي لبعض المدن والمناطق، خصوصاً أن هناك تداخلاً كبيراً بين مكونات الشعب العراقي في كل مناطق العراق، فالعرب السنة ينتشرون في كل أنحاء البلاد، وهناك أكثر من مليون ونصف المليون شخص نزحوا إلى الجنوب في البصرة بعد سيطرة "داعش" على المناطق السنية، كذلك هناك مليونا شخص من العراقيين الشيعة والسنة نزحوا إلى إقليم كردستان، وبالتالي مشروعات التقسيم ستدفع في اتجاه اندلاع حروب مذهبية وطائفية بين أبناء الشعب العراقي الواحد. ثانياً: الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، هي المستفيد الأساسي من مشروعات التقسيم بعدما استغلت هذه التنظيمات حالة الخلل في المعادلة العراقية لبسط نفوذها، ما جلب الخراب والدمار للبنية الأساسية التي وصلت تكلفتها إلى أكثر من 35 مليار دولار، ومقتل الآلاف، وملايين النازحين واللاجئين إلى داخل العراق، وخارجه. كما أن تقسيم العراق الذي تدعمه بعض الدول على أسس عرقية، وطائفية، أو لاعتبارات مصلحية، سوف يغذي مشروعات التقسيم الأخرى في دول مثل سوريا، وتنفيذ أجندات بعض القوى الكبرى والإقليمية بتفتيت بعض دول المنطقة إلى دويلات صغيرة تتقاتل فيما بينها، ما يكرس حالة عدم الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط. في المقابل هناك العديد من عناصر الوحدة في العراق تحقق له العديد من المزايا:- الوحدة تحافظ على استقرار العراق، وسيادته، واستقلاله، في مواجهة التحديات الداخلية ومحاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، واستئصاله من البلاد بعد تعرضه لسلسة من الهزائم الكبيرة، كما أن العراق يمتلك العديد من الثروات الغنية من النفط والغاز بما يمكنه من تحقيق التنمية والتقدم، وإعادة الإعمار، وإعادة اللاجئين، والنازحين. ولذلك فإن تكلفة التقسيم أعلى بكثير جداً من تكلفة الوحدة التي تحقق المزايا لكل العراقيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والطائفية والعراقية، فقد أدت سياسة التناحر والاقتتال، وتغذية الكراهية، والانقسامات الطائفية إلى خسارة الجميع، وانجراف العراق إلى حروب أهلية داخلية، وتصاعد خطر الإرهاب وإعاقة مشروعات التنمية والازدهار. - يمتلك العراق العديد من عناصر الوحدة، أبرزها التعايش والتوافق بين كل مكوناته الطائفية، والعرقيةن واللغوية على مدار قرون عدة، ويتشاركون الموروث الثقافي والاجتماعي، وقد برز التصارع بينهما لعوامل عارضة تغذي التناحر فيما بينها، سواء إبان فترة حكم نظام صدام حسين أو في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي وإقامة العملية السياسية على أساس المحاصصة الطائفية، إضافة إلى التدخلات الإقليمية التي تغذي الاستقطاب بين المكونات العراقية. لكن الحفاظ على وحدة العراق واستقراره مرهون بتصحيح المشهد السياسي، وهو ما يتطلب إحداث تغيرات جذرية في بنية العملية السياسية وفي سلوكات النخب السياسية المختلفة والحاكمة، خاصة في مرحلة ما بعد «داعش»، من خلال تغيير نظام المحاصصة الطائفية والعمل على تكريس دولة القانون والمواطنة التي تساوي بين جميع العراقيين في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن أية اختلافات، وتحقيق المصالحة الوطنية بين كل أبناء الشعب العراقي، وأن تعلي الأحزاب والكتل السياسية مصلحة العراق العليا على أية اعتبارات طائفية، أو جهوية، وأن يتكاتف الجميع من أجل بناء العراق الديمقراطي الموحد الذي يتعايش فيه الجميع. والأهم أن تتوقف كل صور التدخل الخارجي في شؤون العراق من جانب الدول الكبرى والإقليمية التي ساهمت في تعقيد أزماته ومشكلاته، وتوظيف نتائج القمة العربية- الإسلامية -الأمريكية التي عقدت في الرياض، وطالبت بالحفاظ على الدولة الوطنية ونبذ كل أشكال العنف الطائفي. التقسيم من خلال الانفصال لكردستان أو الأقلمة أو الفدرلة لن يكون مجدياً للعراق وسيدخله في أتون حروب عديدة واستمرار معاناة شعبه، بينما الحفاظ على وحدة العراق واستقراره هو السبيل للخروج من أزماته وتحدياته وتحقق له التقدم والازدهار. * خبير العلاقات الدولية في الأهرام
مشاركة :