النسخة: الورقية - دولي ... وفتحت صفحة جديدة في تاريخ مصر الحديث المضطرب والمثقل بالأحداث والآلام والمتاعب وهو يحمل تركة ثقيلة متراكمة بالمشاكل منذ اكثر من قرن من الزمان، وبدأت مرحلة حرجة بعد ثورات متلاحقة لم تثمر عن نتائج إيجابية ولم تسمن المصريين ولم تغنهم من جوع. فتحت صفحة جديدة ومعها تباشير امل وابتهال وقلبت صفحات وجاء وقت الجد والمحاسبة والامتحان والكل يتمنى ان ينجح الرئيس العتيد المشير عبدالفتاح السيسي في مهمته الصعبة وأن يكرم في الامتحان ولا يهان من اجل مصر وشعب مصر. خفتت أصوات الهتافات وموسيقى الأفراح وفتحت صفحة رئيس جديد يضع الشعب عليه الأحلام الوردية ويحمّله مسؤوليات لا يقوى عليها البشر ويراهن على نجاحه في قيادة سفينة نجاة مصر وإيصالها الى بر الأمان لعله يكرر إنجاز العبور في حرب السادس من تشرين الاول (أكتوبر) ١٩٧٣ في عبور هو اكثر أهمية وأخطر مسلكاً وأشد تعقيداً من مواجهة عدو غاصب لأنه يحدد المصير والمستقبل والانتقال من طريق الضياع والقلق والخيبات الى طريق الإنقاذ والآمال بعد سنوات من التعثر والأزمات السياسية. ولا شك في ان الرئيس العتيد يدرك جيداً حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه من خلال خبرته في القوات المسلحة وجهاز المخابرات ومن خلال متابعته لمجريات ما آلت اليه الامور عن كثب، كما يؤمن بأن مهمته ليست سهلة أبداً، بل هي صعبة مثقلة بالهموم والمطالب وتحتاج الى جهد وعرق وحكمة وتضحيات وصبر من كل مواطن مصري. من هذا المنطلق يمكن القول ان الشعب المصري سيجتاز المحنة ويساهم في الإنقاذ عندما تعاد اليه الثقة بنفسه وبقدراته ومعها ثقته بقيادته بعد سنوات من الاهتزاز والشكوك والشكاوى من الفساد والهدر والاستئثار بالحكم والأخطاء والترهلات والبيروقراطية في كل مفاصل الدولة وصولاً الى سنوات الفوضى والعنف والإرهاب واتهام «الاخوان المسلمين» بالهيمنة على الحكم والتفرد بالسلطة والقرار وإقصاء القوى الوطنية الأخرى. كما ان المشير السيسي، ومعه كل من يتابع شؤون مصر، يعرف تماماً ان حكم مصر لم يكن ولن يكون مجرد نزهة او ترف سلطة، فمنذ ايام الفراعنة حتى يومنا هذا تحيط الأخطار بمصر من كل حدب وصوب ومعها المطامع الأجنبية والطموحات الداخلية والصراعات المتعددة الوجوه والمشارب. ولم ننس يوماً ان ملفات التركة الثقيلة في العصر الحديث حفلت بأحداث مهمة وعلامات فارقة غيّرت مجرى التاريخ: من نكبة فلسطين عام ١٩٤٨ الى العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) عام ١٩٥٦ الى هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) ١٩٦٧ الى حرب تشرين ١٩٧٣ من العــــبور الى الثغرة القاتلة او «الدفرسوار» واتــــفاقات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع اسرائيل وما خلفته من تبعات وما حملته لمصر من متاعب والتزامات تثقل كاهلها. كما ان هذه التركة تـــــذكرنا بحقائق مهمة ومؤلمة عن مصير الرؤساء ومآل الحكم: ملك معزول (فاروق) بعد ثـــورة ٢٣ تموز (يوليو) ١٩٥٢ ورئيس أُبعد واعتــــقل في إقامة جبريـــة حتى لحظة وفاته (محمد نجيب) ورئيس مــــات مقهوراً من آلام الهزيمة (جمال عبدالناصر) ورئيس مات اغتيالاً (أنور السادات) بعد قيــــادته معركة العبور وانتصار ١٩٧٣ وتحرير آخر شبر من الاراضي المصرية المحتلة من اسرائيل، ومن بعده رئيس حكــم ٣٣ سنة أُجبر بعدها على التنحي بعد ثورة ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١ وفوضى عارمة ضربت البلاد وحوّل الى المحاكمة من دون اعتبار لـــدوره في حرب تشرين وفي إنجازات حققها وصولاً الى رئيس آخر معزول وقابع في السجن (محمد مرسي) بعد ثورة ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٣ مع أركان «الاخوان المسلمين». هذه البانوراما المصرية المؤلمة لا شك في ان الرئيس السيسي سيأخذ منها العبر، وهذا ما دعاه الى القول قبل ايام من الانتخابات إنه لا يستبعد ان ينزل الشعب الى الشارع من جديد في حال عدم تحقيق مطالبه لكن الظروف مختلفة الآن لعوامل عدة أهمها تماسك الجيش وإصراره على منع اي تهديد لمصر، والثقة الشعبية بالسيسي والأمل بأن يبذل جهداً جباراً لتحقيق إنجازات يعرف القاصي والداني انها تحتاج الى مثابرة وتضحيات ومشاركة من كل الأطراف والفئات مع ادراك الجميع أن الفشل ممنوع لأنه يعني الانهيار التام، لا قدّر الله. ويضاف الى كل ذلك الدعم العربي القوي (والخليجي بالذات) للشعب المصري بكل الوسائل عن إيمان بأن استقرار مصر هو استقرار للمنطقة وأن اي تهديد لأمنها يهدد أمن كل العرب. وهنا تكمن أهمية المهمة وصعوباتها لأن المعركة المقبلة أخطر من الحروب. فالجراح ما زالت نازفة، والملفات الساخنة مفتوحة، والهموم لا تعد ولا تحصى، فالمتاعب والمشاكل كثيرة والمطلوب واحد وهو إيجاد حلول ناجعة وعاجلة لإنقاذ البلاد والعباد مما يستدعي اتخاذ قرارات مؤلمة واتخاذ خطوات جريئة لمعالجة الأوضاع المتردية ولا سيما الاقتصادية منها. هذه الملفات المتراكمة امام الرئيس العتيد اليوم تعد بالمئات أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: - إعادة ترتيب أوضاع البيت من القمة الى القاعدة ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب لإصلاح الادارة المهترئة. - توفير الأمن والقضاء على بؤر الإرهاب والتطرف وتعزيز الوحدة الوطنية والمحاسبة بحزم تحت سقف القانون لردع كل من يهدد الأمن، لأن لا اقتصاد بلا أمن وأمان، وهذا يستدعي وضع ميثاق وطني شامل لنبذ الإرهاب. - إزالة آثار وارتكابات الأنظمة السابقة وتصحيح الأخطاء وقيادة مسيرة إصلاح شامل يشارك فيها الجميع من القمة الى القاعدة. - وضع خطة طوارئ لمعالجة الأوضاع الاقتصادية المتردية والتي ازدادت تدهوراً بعد أحداث السنوات القليلة الماضية إن بسبب التدمير الممنهج او نتيجة لتهريب الرساميل الوطنية وهروب الاستثمارات الأجنبية وضرب السياحة التي يعتمد عليها الاقتصاد المصري. - التركيز على الأرياف في كل المناطق المصرية من الصعيد الى سيناء ورفع الحيف عن المحرومين والمهمشين من أبناء النوبة وسكان المناطق المهملة وتكثيف المشاريع الزراعية والإنتاجية فيها لوقف نزيف هجرة الريف الى القاهرة والمدن الاخرى. - التركيز على قضايا الشباب ومطالبهم لأنهم عماد المستقبل ووقود الثورات، وهذا يتطلب فتح منافذ لأسواق العمل والإنتاج وحل مشاكل البطالة وفق مبدأ تكافؤ الفرص، وهي أزمة تطاول اكثر من ثلث الشعب، اي حوالى ٣٠ مليون إنسان، من دون إغفال لمحنة الفقر التي يعاني منها اكثر من ٧٠ في المئة من الشعب. - إيجاد حلول لتركة الأنظمة السابقة وتبعاتها مع التركيز على استعادة الأموال المنهوبة ومحاسبة المرتكبين واحتواء القوى الوطنية وعدم الوقوع في فخ الاجتثاث والعزل والإقصاء وإثارة العداوات والأحقاد. - العمل على إطلاق سراح المعتقلين، الى أية جهة انتموا، شرط ألا تكون أيديهم قد تلوثت بالدماء او ارتكبوا عمليات ارهابية، لأن العفو عند المقدرة، والحل الأمني لن يكون ناجعاً إلا بخطوات تؤمن العدالة وإتاحة الفرص للتوبة والدخول في حوار لإتمام المصالحة الوطنية الشاملة التي يعود بها الجميع الى حضن الوطن. حتى جماعة «الإخوان المسلمين» يمكن احتواء جموحها في حال خلصت النيات، لكن هذا يتطلب وقفة شجاعة من قيادات حكيمة ومعتدلة لكي تجري مراجعة لسياساتها وتضع برنامجاً يعترف بالأخطاء ويقرّ بنبذ العنف والالتزام بالعمل الوطني وأصول الديموقراطية. - التركيز على الداخل يجب ألا يصرف الأنظار عن الأخطار التي تهدد أمن مصر ومصالحها وحاضر المصريين ومستقبلهم. فمن الخطر الاسرائيلي وتبعاته والصراع في المنطقة والتزامات معاهدة السلام الى الخطر الماثل الذي يهدد الأمن المائي والغذائي نتيجة لتهديدات اثيوبيا وإصرارها على بناء سد ضخم يقلص إمدادات مياه النيل. كما ان مصر محاطة بالأخطار من كل جانب، فالحدود مع السودان سائبة مع تجدد الحديث عن منطقة حلايب المصرية التي يطالب بها السودان مع تسلل المهربين والإرهابيين وتهريب الأسلحة. والأمر ذاته ينطبق على الحدود مع ليبيا حيث تهرب الأسلحة لمصلحة جماعة «الاخوان»، كما ينطبق على الحدود مع غزة والأزمة مع «حماس» المتهمة بدعم أنصار النظام المخلوع. كل هذه الوقائع تستدعي بإلحاح استعادة دور مصر العربي والإسلامي والإفريقي ولعب دور مفصلي في حل أزمة الشرق الاوسط ودعم القضية الفلسطينية لأن غيابها أخّل بالموازين ودفع اسرائيل الى التعنت. وهذا غيض من فيض المشاكل المتراكمة في التركة الثقيلة التي ورثها الرئيس السيسي من عهود خلت. ولا حل إلا بالمصارحة والمصالحة والشفافية واعتماد الأساليب الديموقراطية ومعايير العدالة ونزع صواعق القنابل الموقوتة وتقوية العلاقات مع الدول العربية والأجنبية وجذب الاستثمارات لفتح منافذ الإنتاج وفرص العمل لملايين الشباب. ولا يملك من يحب مصر ويتمنى الخير لأهلها إلا الدعاء للرئيس السيسي بأن يوفق في قيادة السفينة الى بر الأمان وأن يلهمه الله الحكمة والروية والشجاعة وأن يلهم الشعب المصري الصبر ويهديه الى التبصر بالأخطار والواقع والتضحية قليلاً للمشاركة في إنقاذ بلاده وتأمين حياة كريمة لأولاده وأحفاده حتى لا يغرق المركب، لأن اهم ما تميز به المصريون عبر التاريخ هو الصبر والتسامح، وأن ما يسعد مصر يفرح العرب وما يمسّها يصيب كل عربي في الصميم... حماها الله من كل مكروه حتى ندخلها آمنين... أمين. * كاتب عربي
مشاركة :