بغداد - يبدو أن نهاية ولاية رئيس الوزراء حيدر العبادي ستكون مثل بدايتها محملة بملفات سياسية وأمنية واقتصادية شائكة، وبعد نجاح حكومته في تحرير البلاد من المتطرفين، يواجه اليوم أربعة تحديات عليه تجاوزها قبل انتهاء ولايته. ستة أشهر هي كل ما تبقى من ولاية حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي بعد ثلاث سنوات صاخبة بالأحداث، انشغلت خلالها بالحرب على تنظيم الدولة الإسلامية وتكللت بالانتصار أخيراً بعد استعادة السيطرة على جميع البلدات التي احتلها التنظيم في صيف العام 2014. ولكن القادم لن يكون سهلا، فالعبادي الذي تسلم الحكم حاملا تركة ثقيلة من زميله في حزب "الدعوة" نوري المالكي، يواجه اليوم مشكلات أخرى، فالرجل تصاعدت شعبيته في الآونة الأخيرة حتى بات يسمى بـ"رجل المهمات الصعبة" هل ينجح في الاختبار الجديد؟ وعندما تسلم العبادي الحكم في آب (أغسطس) العام 2014 لم يكن في وضع يحسد عليه، ودشن حكمه بخلاف عميق مع زعيمه في الحزب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي وصف ما جرى بالخيانة بعد إبعاده من السلطة، بينما كانت ثلث البلاد تحت سيطرة المتطرفين حيث وصلوا إلى مشارف العاصمة بغداد، في حين كانت خزينة الدولة من الأموال فارغة تزامنت مع انخفاض أسعار النفط العالمية إلى اقل من (20) دولارا في بلد يعتمد 95 بالمئة من دخله القومي على إنتاج النفط. أما اليوم، فالأزمة السياسية مع إقليم كردستان بعد استفتاء الانفصال عن العراق، وتنظيم الانتخابات التشريعية والمحلية، وإقرار الموازنة العامة في البلاد في ظل أزمة مالية خانقة، إضافة إلى مستقبل "الحشد الشعبي" ابرز التحديات التي تواجه العراق. الأزمة مع الكرد الأزمة التي اندلعت بين بغداد وأربيل كانت خارج حسابات العراقيين، إذ أدى إصرار الكرد على تنظيم استفتاء الانفصال عن البلاد في توقيت سيئ إذ كانت الحكومة الاتحادية تنال دعما إقليميا ودوليا لافتا، وأسفر عن أزمة سياسية وعسكرية كبدت إقليم كردستان خسارة النفوذ في مدينة كركوك قلب الكرد مع المناطق المتنازع عليها. وبرغم مرور أكثر من شهرين على الأزمة، وإعلان إقليم كردستان أخيراً رغبته في الحوار مع بغداد لحل الخلافات، إلا أن حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي لا تبدو متحمسة، وتسعى لكسب الوقت لانتزاع مكاسب على الأرض يجعلها الطرف الأقوى في المفاوضات. حتى الآن يضع العبادي شرطين أساسيين لبدء الحوار، الأول صدور إعلان صريح من حكومة إقليم كردستان بإلغاء نتائج الاستفتاء على الاستقلال الذي نال موافقة 92 بالمئة من الكرد، وحاولت حكومة إقليم كردستان تنفيذه عبر إعلانها احترام تفسير المحكمة الاتحادية بعدم دستورية الاستفتاء، إلا أن سياسيين في بغداد يقولون إن إعلان الاحترام يختلف عن إعلان الإلغاء. أما الشرط الثاني فهو إصرار الحكومة الاتحادية على إدارة المعابر الحدودية الدولية لإقليم كردستان مع تركيا وإيران وسوريا ونشر قوات اتحادية على طول الشريط الحدودي، وهذا يثير قلق الكرد من احتمال تهديدهم مستقبلا عبر حصار اقتصادي، إذ أن جزءا كبيرا من واردات حكومة إقليم كردستان تأتي من المنافذ الحدودية. ويقول القيادي في حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" عبد الله الحاج سعيد إن "حجم التبادل التجاري مع تركيا وصل إلى عشرين مليار دولار، ومع إيران سبعة مليارات دولار"، وهو مؤشر إلى حجم الخسارة التي قد يتعرض لها الإقليم في حال تنازله عن المعابر لصالح الحكومة الاتحادية. في الأيام القليلة الماضية تغير موقف الدول الكبرى بعض الشيء، عندما بدأت الأزمة كانوا يدعمون العبادي وانتقدوا الكرد، ولكن مع تصاعد رد فعل بغداد المبالغ بها إزاء الأزمة ووصول القوات الاتحادية و"الحشد الشعبي" إلى ضواحي أربيل، وعدم حماسة العبادي للحوار، بدأت الدول الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي بالضغط على بغداد للحوار ووقف الإجراءات ضد الإقليم. ويقول مسؤول كبير في الحكومة الاتحادية فضل عدم الإشارة إلى اسمه إن "الحوارات مع إقليم كردستان ستبدأ قريبا ولكنها لن تكون سهلة إذا التزم الكرد مواقف متصلبة، الحوارات ستتناول في البداية الملف العسكري ووضع خريطة لانتشار القوات الاتحادية والبشمركة على حدود سيتم الاتفاق عليها". ولكن القضايا الأخرى المتعلقة بإدارة النفط وحصة إقليم كردستان من الموازنة وإدارة المعابر الحدودية، طريقة حكم محافظة كركوك قد تأخذ بعض الوقت، وفقا للمسؤول ذاته. تنظيم الانتخابات في نيسان (ابريل) الماضي كان من المقرر أن تجري الانتخابات المحلية في البلاد، ولكن الحكومة العراقية لم تستطع تنظيمها، ووافقت الأحزاب الشيعية والسنية والكردية على تأجيلها ودمجها مع الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في أيار (مايو) العام المقبل. وبعد أشهر من السجالات الحامية داخل البرلمان تمكن النواب من اختيار مفوضية انتخابات جديدة ينتمي أعضاؤها إلى الأحزاب الرئيسية في البلاد كما جرت العادة، ولكن المفوضية ليست العنصر الأساسي لإجراء الانتخابات المقبلة، فالأوضاع السياسية والاجتماعية الجديدة التي ظهرت بعد الحرب على الدولة الإسلامية تمثل تحديات جديدة. لا تبدو الأحزاب السنّية متحمسة لإجراء الانتخابات في الربيع المقبل، والسبب إن المدن التي تمثل القاعدة الشعبية لهذه الأحزاب مدمرة بسبب المعارك ضد المتطرفين على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، ونصف سكانها نازحون خارج مدنهم حتى اليوم بسبب الفوضى الأمنية والخوف من الاعتقالات التعسفية وانهيار الخدمات والبنى التحتية. النائبة عن "تحالف القوى العراقية" (السني) لقاء وردي تقول "على الحكومة توفير متطلبات الانتخابات الديمقراطية في حال إصرارها على إجراء الانتخابات بعد ستة أشهر، ليس من المعقول تنظيم الانتخابات في المحافظات السنية وتنتشر فيها قوات "الحشد الشعبي"، وملايين سكانها ما زالوا يعيشون في مخيمات النزوح خارج مدنهم". كما أن الحرب على الدولة الإسلامية غيرت من موازين القوى السياسية، فهناك تشكيلات مسلحة شاركت في المعارك تريد استغلال شعبيتها للمشاركة في السياسة، الفصائل الشيعية المنضوية في مؤسسة "الحشد الشعبي"، والتشكيلات العشائرية السنية تسعى لتقديم نفسها بديلا عن الأحزاب التقليدية. وبرغم أن قانون الأحزاب الذي اقره البرلمان العام 2015 وسيطبق للمرة الأولى في الانتخابات المقبلة يمنع التشكيلات المسلحة من المشاركة في الانتخابات، إلا أن هذه الفصائل بدأت تراوغ القانون عبر تسجيل نفسها كأحزاب وبأسماء جديدة، وهو ما يثير قلق الحكومة، والأحزاب التقليدية التي تخشى من خسارة رصيدها السياسي. في المحصلة الانتخابات القادمة ستكون الأكثر أهمية في البلاد لكونها أول انتخابات تجرى بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. وعلى الرغم من أن العبادي أعلن السبت الماضي إجراء الانتخابات في موعدها إلا أن أحزاباً شيعية تتهمه بالسعي لتأجيل الانتخابات وتمديد عمل الحكومة لعامين. الأزمة المالية والفساد بعد يوم على إعلان قوات الأمن العراقية استعادة السيطرة على بلدة راوة في الانبار أخر معاقل التنظيم في البلاد، قال رئيس الوزراء حيدر العبادي إن "المعركة المقبلة ستكون ضد الفساد"، ولكن هذه المعركة لن تكون سهلة في بلد ينخر الفساد جميع مفاصل الدولة على مدى العقد الماضي، بينما تواجه البلاد أزمة مالية خانقة بسبب انخفاض أسعار النفط والخسائر المادية الكبيرة التي تكبدتها البلاد في الحرب ضد الدولة الإسلامية. وفي مؤتمر صحفي من محافظة كربلاء، قال رئيس الوزراء حيدر العبادي في 11 من الشهر الحالي إن خسارة العراق في حربه ضد التنظيم بلغت مئة مليار دولار". ويعلم العبادي أكثر من غيره حجم التحدي الاقتصادي الذي يواجه حكومته، فالرجل الذي تسلم الحكم وخزينة الدولة فارغة وتزامن حكمه مع انهيار أسعار النفط العالمية في بلد يعتمد دخله القومي بشكل أساسي على النفط يدرك جيدا أن المشكلة الاقتصادية هي الأخطر. انشغال الجميع بالحرب على الدولة الإسلامية لم يسمح بتسليط الضوء على الأزمة الاقتصادية السرية التي تواجه البلاد، ولم يسأل احد كيف تمكنت الحكومة على مدى السنوات الثلاثة الماضية من تمشية أمور البلاد رغم تكاليف الحرب الباهظة. ومع انتهاء الحرب بدأ مسؤولون عراقيون يتحدثون عن ذلك، وأعلن عضو اللجنة المالية في البرلمان النائب احمد حاجي الأسبوع الماضي أن "العراق مدين حاليا بـ (120) مليار دولار، ومصير البلاد بات في خطر"، فيما أعلن نائب رئيس الجمهورية إياد علاوي أن حجم الديون اكبر من ذلك ويبلغ (133) مليار دولار. الحكومة العراقية أرسلت الأسبوع الماضي مسودة قانون الموازنة إلى البرلمان، ووفقا للنائب هلال السهلاني فان قيمة عجز الموازنة يبلغ 20 بالمئة، فيما تسربت شائعات عن نية الحكومة تخفيض رواتب موظفي الدولة البالغ عددهم أكثر من أربعة ملايين موظف. كما انتقدت حكومة إقليم كردستان مسودة الموازنة بسبب تخفيض حصتها إلى 12 بالمئة بعدما كانت في السنوات الماضية بالمئة وهو ما اجبر النواب الكرد المقاطعين للبرلمان الاتحادي بالعودة إلى الجلسات لمنع التصويت عليها بهذه الصيغة خصوصا بعدما خسر الإقليم موارد مالية مستقلة كان يحصل عليها عبر بيع نفط كركوك. كما أن النواب السنّة يتطلعون بشغف إلى مخصصات محافظاتهم المدمرة والتي تحتاج إلى تخصيصات مالية اكبر من المعتاد لإعادة إعمارها، وطمأنة سكانها الغاضبين قبل الانتخابات، هذا يعني ان النقاشات ستكون محتدمة بين البرلمان والحكومة في شأن الموازنة. مستقبل الفصائل الشيعية منذ أيام تزايد الحديث عن مستقبل الفصائل الشيعية المعروفة باسم "الحشد الشعبي"، فالعبادي عليه التعامل مع قوة مسلحة عقائدية يبلغ قوامها أكثر من (100) ألف مقاتل، وإذا كان الجيش سيذهب إلى ثكناته، والشرطة إلى المراكز المناطقية، فأين ستذهب الفصائل الشيعية، وما مهامها الجديدة؟ وتنقسم الفصائل الشيعية إلى ثلاثة أقسام، التابعة إلى إيران وترتبط دينيا بالمرشد الإيراني علي خامنئي، والتابعة إلى المرجع الشيعي علي السيستاني في النجف، والتابعة إلى الأحزاب الشيعية العراقية التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، و"المجلس الأعلى الإسلامي" بزعامة عمار الحكيم. وتختلف الفصائل التابعة إلى إيران عن غيرها بأنها الأقوى والأكثر تسليحا وتسمى شعبيا باسم "الحشد الولائي" أي الذي يدين بالولاء لنظام ولاية الفقيه في إيران، وهي تعتبر أن العراق وسوريا جبهة واحدة، وتؤكد بان وجودها مستمر، ويبلغ عددها نحو (20) تشكيلا عسكريا أبرزها منظمة "بدر" و"عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله" و"سرايا الخراساني" و"النجباء" و"كتائب الإمام علي" و"كتائب سيد الشهداء" و"كتائب التيار الرسالي"، و"لواء أسد الله الغالب" و"قوات أبو الفضل العباس". مقترحات رئيس الوزراء حيدر العبادي التي أعلنها على مدى الشهور الماضية حول مستقبل الفصائل الشيعية عبر ضم من يرغب من المقاتلين إلى الجيش والشرطة وتتم مكافأة الآخرين منهم وعودتهم إلى الحياة المدنية، مرفوضة تماما من قبل الفصائل القريبة من إيران، بينما تضغط الولايات المتحدة على العبادي لإنهاء هذا الملف. على العكس من ذلك فان الفصائل التابعة إلى المرجع الشيعي علي السيستاني وأبرزها "فرقة العباس القتالية"، وفصيل "سرايا السلام" التابع إلى رجل الدين مقتدى الصدر تحترم قرارات الحكومة وتعمل بالتنسيق مع وزارة الدفاع، وأعلنت استعدادها لحل نفسها بعد القضاء على الدولة الإسلامية فيما دمجت أول فرقة عسكرية تابعة للسيستاني مع الجيش العراقي في تموز (يوليو) الماضي. العبادي الذي نجح خلال فترة حكمه في مسك العصا من الوسط في الملفات الشائكة وتجنب الانخراط في خصومات مع الكتل السياسية، والإرادات الدولية المتصارعة خصوصا بين أميركا وإيران، يدخل الآن في مرحلة الحسم، وعليه اتخاذ قرارات مصيرية قبل انتهاء ولايته، وهذه القرارات قد لا تعجب الجميع، بينما يسعى الرجل للحفاظ على شعبيته استعدادا لخوض الانتخابات المقبلة لانتزاع ولاية جديدة.(نقاش)
مشاركة :