ألا يا ليت ربي يوم سوى عبيده حط للطيب علامة - إبراهيم المزيد (المعنى في بطن الشاعر) كلمة قديمة سارت مسير المثل, تقال عند خفاء المعنى المقصود في بيت أو قصيدة, أو غموضه والتباسه, أو تعدد تفسيراته, ثم سارت فصارت تطلق على كل عبارة لا يُعرف المراد بها على وجه التعيين. والناس في فهمهم للشعر يختلفون, فمنهم من يفهم بنفسه ومنهم من لا يفهم إلا بغيره إما عجزًا أو عدم ثقة بقدرته على الفهم, ومعظم هؤلاء هم من يرددون عبارة: المعنى ببطن الشاعر! لكن هل كل المعاني في بطن الشاعر؟ الجواب بلا شك هو: لا, فليس كل المعاني يقتصر معرفة المراد بها على الشاعر أو القائل, ولا يجوز أن تقال هذه العبارة في كل معنى, ولا أظن أن هناك من يرى أن المعنى في بيت السياحة أعلاه - على سبيل المثال - إنما هو في بطن الشاعر وحده. هناك معانٍ مشتركة يفهمها الجميع والطبيعي أن هذا النوع من المعاني هو ما يمثل غالبية الشعر. وهناك معانٍ خاصة لا يفهمها إلا الخاصة؛ لأنها ترمز إلى قضايا لا يعرفها إلا المثقفون أو المطلعون على ظروف القضية التي يدور حولها المعنى, والأذكياء الذين يربطون الأحداث, ويفطنون للإشارات, ويفهمون دواخل الشعراء ولديهم إلمام بنفسياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية, وهذا النوع يكثر في جمهور المحاورات الشعرية وعشاقها. وهناك معانٍ لا يفهمها إلا الشاعر نفسه, وهذا النوع أسوأ أنواع المعاني, فالذي لا يفهمه إلا الشاعر نفسه ما هو إلا هذيان محموم أو همهمات مشعوذ أو موسوس, فالشعر فن تفاعلي موجّه وتعبير وجداني أو عقلي مؤثر, وليس هناك شاعر ينظم الشعر لنفسه خاصة إلا أن يكون لديه اعتلال نفسي, لذا فمقولة (المعنى في بطن الشاعر) في معظم مجالات إطلاقها, لا يُقصد بها الشاعر وحده بل يشاركه البعض في إدراك المعنى أو المغزى وإن يكونوا قلة, وبهذا سارت الكلمة. والأعجب العجيب أن يكون هناك معانٍ يفهمها البعض ولا يفهمها الشاعر نفسه, وربما كان هذا من غير المعقول ومما لا يمكن تصوره, لكنه حقيقة, وهي حقيقة يدعمها المنهج (الانطباعي) في النقد الذي يجسد تعدد القراءات للنص, والشاعر بالطبع أول قراء النص. روت كتب الأدب أن أبا نواس دخل المسجد, وبينما هو يصلي سمع أحد القُصاص في المسجد يجيب عن سؤال وجهه إليه أحد الحاضرين حيث قال: لماذا قال أبونواس:(وقل لي هي الخمر) في قوله (ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر)؟ يقول أبو نواس: فلما سمعت اسمي تنبهت حواسي, وتشوقت لمعرفة الجواب, فأصخت إليه منتظرًا الرد, فقال القاص: إنه عندما قال: (ألا فاسقني خمرًا) أراد أن يتلذذ بطعمها, ثم قال (وقل لي هي الخمر) ليتلذذ بسماع اسمها, فهو حينئذ يتلذذ بها مرتين! قال أبونواس: فلما سمعت هذا التفسير المثير عجبت منه وأعجبت به, مع أنه لم يخطر ببالي عند إنشاء البيت! والأكثر إثارة للعجب والسخرية معًا أن يجيب الشاعر عندما يناقش ويحشر في الحوار حول معنى أحد أبياته, فيقول: (المعنى ببطن الشاعر)! وهذا الرد ما هو - بالطبع - إلا هروب من تبعات الحقيقة التي تدينه أو تشعره بالخجل, يقال إن أحد الشعراء هجا أحد الملوك بأبيات غامضة المعاني, فلما سأله الملك عن مراده أجابه بأن (المعنى في بطن الشاعر) فقال الملك: ابقروا بطنه حتى نرى هذا المعنى! تقال عبارة (المعنى في بطن الشاعر) في المعاني الغريبة الرمزية غير الواضحة, أما المعاني الواضحة فلا يُلتفت فيها إلى حضوره أو غيابه, ولا يجوز أن تُضم إلى بطنه وحده. فاصلة: قال المتنبي: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسخر الخلق جراها ويختصم
مشاركة :