«سقاني محبوبي».. تطهير القلب أعلى مقامات العشق

  • 6/9/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: محمد ولد محمد سالم تعد قصيدة «سقاني محبوبي» لإبراهيم الدسوقي إحدى روائع شعر الحب الإلهي لما تضمنته من صور الوجد والانجذاب في العشق المتسامي على الماديات المتعلق بالذات العليّة، وهو فيها ينهج نهج الصوفية في اتخاذ مفردات الحب البشري كرموز للمعاني الروحية التي يسعى للتعبير عنها، فإن تلك المعاني خفية متعلقة بالروح وتوقها إلى الجليل المتعالي عن كل وصف، وما يرتبط بذلك التعلق من رؤى وأفكار، فكان لا بد لتلك المعاني الخفية أن تجد قالباً ظاهراً معروفاً لتسكب فيها، حتى يعيها السامع ويفهم مقاصدها، وهو ما وجده المتصوفة في علاقة الحب، فاستعاروا أدواتها لوجدهم، وصفاتها لوصف ما يعانونه.وإبراهيم الدسوقي هو إبراهيم بن عبد العزيز أبو المجد، ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، وكان مولده بمدينة دسوق في مصر سنة 653ه، تبحّر في العلم وخاصة مذهب الإمام الشافعي، كما تبحّر في علوم الصوفية، وأخذ الطريقة عن عدد من الشيوخ، تولى منصب شيخ الإسلام في عهد الظاهر بيبرس، فكان يعلّم الناس الفقه والتصوف معاً، وكان زاهداً عابداً، يصرف راتبه من وظيفته للفقراء، وإليه تنسب الطريقة الدسوقية.يستهل الشاعر قصيدته بالإعلان عن حالة من الوجد ترتقي إلى درجة النشوة والغياب عن الوعي، وذلك لأن محبوبه «سقاه» بكأس المحبة حتى غيّبه عن الوجود، فارتقت روحه في مدارج النور الإلهي الذي لو أضاء الجبال لانهدّت، لكن مقام الصالحين مقام عزيز يشاهدون فيه ما لا يشاهده الفرد العادي، وتجد فيه أرواحهم من نفحات ربها ما لا يجده غيرها، وكان ذلك الحال أعذب اللحظات وأقربها من الحبيب، وأدناها إلى غايته، وهي الفوز بمرضاة المحبوب، وأن تسطع أنوار وجهه في قلبه، فيصير هو نفسه كتلة من النور الساطع، هنا ينسى المحب حياته الدنيوية، ويتخلى عن مطامعه فيها، ويستغني عن كل ما فيها من ماديات بفيض من عطاء ربه، وهذا «الفيض» ليس عطاء من مال أو ماشية أو زرع أو سكن أو غير ذلك، لكنه نور الإيمان الذي يتلألأ في قلب المحب، ونور المحبة الذي يملأ جوارحه، فلا تتحرك إلا به، يقول الدسوقي:غنيت عن الدنيا بفيض عطائه                                     وأي عطاياهم يداني عطيتي؟وصرت على بعد المسافات واصلا                                     لأدنى دنو في ارتفاعي لغايتيفوجه الحبيب الحق مَشرق وجهتي                                     ونور الحبيب الحق ساطعُ قبلتيوفي القلب أشواق يترجم فيضها                                     عن الألق السامي إلى قدس حضرةوفي ذلك المقام السامي شاهد المحب من آيات الحب، وشهد من فيوض العطاء ما عجز إدراكه عن وصفه، لكن نفسه طابت به واطمأنت، وعرفت لذة الحب الحقيقية، ولذة الذل للمحبوب والخضوع له، وتسليم الأمر له، وخشيته في السر والعلن، فتلك المذلة هي سر الوصول إلى مراتب العشق العليا، وسبب العطاءات التي لا حد لها، لأن الله العلي القدير يجازي المؤمن على قدر مذلته له، وخضوعه لأوامره، لأنه الواحد الأحد القادر على كل شيء، وهو القاهر فوق عباده، ومن خلق السماوات والأرضين، وكل ما فيهن، وهو القائل جل من قائل: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»، فمن كانت تلك صفاته استحق المذلة والخضوع، والسمع والطاعة، وهو الكريم المنان الذي يجازي بالجزيل على طاعته والخضوع له، ويقرب من اتبع أوامره، يقول الشاعر:شهدت وشاهدنا، وطابت نفوسنا                                     وقد لذ لي ذلي إليه وخشيتيأحن على ذل، وأهوى على هدى                                     وأسري على علم لأنوار طلعةلكن الخشية أو المذلة لله على جلال قدرها، وعظمة شأنها ليست آخر مرتبة، والشاعر المتصوف لا يتوقف عندها بل يتجاوزها إلى مرتبة أكبر هي مرتبة الرضا بالله، والرضا عنه، فهذا المقام هو أرفع المقامات، وأخطرها في تحقيق مقاصد المؤمن، ولأن العبد يتجرد فيه عن كل هوى، ويتحرر من كل ضغائن النفس وأدرانها، فتموت فيه دوافع الكره والحقد والأنانية، ولا يبقى في نفسه سوى معنى واحد هو معنى «الرضا» بكل ما يأتيه الجليل سبحانه وتعالى، وكل ما يصرفه فيه من أحوال، فكل ما فعله الجليل هو الجميل، وهذه المرتبة هي مرتبة الصحابة الذين قال عنهم «والسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»، وعندما يدخل الشاعر إلى المقام فإنه يدخل كما قال الشاعر إلى روضة جميلة نعيمها لا ينقطع.وفي ذلك المقام العالي يتطهر القلب من كل مأرب سوى مأرب حب الله والاستئناس بقربه، وتتعلق نفسه بنور الذات العلية الذي يتراءى لها، وتجد الحبور من عطف الله ورعايته وتجاوزه عن عبده وتأمينه من الروع، يقول الدسوقي:رضيت به حتى دخلت رياضه                                     فأنعمْ بها من روضة أي روضةِوما لذة العشاق إلا يقينهم                                     بشملٍ جميعٍ بعد طول تشتتوأغسل قلبي من سواك، ولم أجد                                     لنفسيَ إلا نور ذاتك بغيتيتعاليت بالعطف الكريم، رعايةً                                     فباركت زلاتي وأمنت روعتي

مشاركة :