أوهام السيادة : فتحي بن عيسى

  • 6/9/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أوهام السيادة فتحي بن عيسى هل أغالي إن قلت إننا نعيش أوهاما وهلوسات نتوارثها جيلا عن جيل وكابرا عن كابر، هل أحيد عن الصواب إن زعمت أن ورما خبيثا سكن عقولنا فعطلها وسمّم حياتنا، فأصبحنا أضل من الأنعام. في كل محفل نرفع أصواتنا ونجاهر بالهتاف بأن السيادة الوطنية دونها الموت، وأننا لن ولم نرض بأن تنتهك السيادة الوطنية. وسط هذا الضجيج لم يسمح لنا أن نتوقف لبرهة لنلتقط أنفاسنا ونسأل ما معنى السيادة؟ ما هي مقوماتها؟ وما هي أولوياتنا كبشر خلقنا الله لنعمر الكون؟ طبعا مفهوم السيادة ارتبط بمفهوم الموت في سبيل تراب الوطن، تحت شعار “نموت ويحيا الوطن”، ولا أعرف كيف سيحيا الوطن وقد مات أهله موتة كبرى وموتة صغرى، ليبقى ترابا بائسا شاهدا على قلة تدبير من مروا عليه ذات زمن، ولماذا لا يكون الشعار هو نحيا ويحيا الوطن. لقد حولتنا الشعارات التي ندعي أنها كبرى إلى مسوخ وأرقام في لعبة أقل ما توصف بأنها قذرة، يُسحق فيها الإنسان باسم الدفاع عن السيادة والسادة، والوطن والوطنيين، والإسلام والمسلمين، والمسيح والمسيحيين، إلى آخر السجع والبديع الذي يتفنّن صناع الوهم في إنتاجه. من دون الخوض في مفهوم السيادة ضمن علوم السياسة والقانون، سأتعامل مع المفهوم كما يُسوّق إعلاميا ووفقا للبرمجة التي تمت لعقول البشر الذين هم في نظر مبرمجيهم مجرد دهماء وعوام، واسمح لي أن أطلب منك أن تسأل أي شخص بجوارك الآن عن مفهوم السيادة الوطنية، وأنا على يقين بأنك ستسمع ذات الجواب، وهو أن السيادة تعني أن نسيطر على حدودنا ونسن القوانين التي نريد، ونفعل فوق أرضنا ما نشاء، وبشعوبنا ما نريد، قرارنا بيدنا وأموالنا لنا. ودعني أطلب منك أن تسأله مرة أخرى، وماذا عن المواطن، عن الإنسان؟ كيف يكون سيّدا؟ سيتلعثم قبل أن يقول، من خلال انتخاب السادة مرة كل عدة سنوات، حيث تبدأ العلاقة بين المواطن وسيده بحملة انتخابية وتنتهي بوضع ورقة في الصندوق. لكن ماذا عن المحاسبة، عن المتابعة؟ سيكون الجواب دع الخلق للخالق ولن يصيبنا إلا ما كتب الله علينا وليس لنا. ونتناسى بحكم الضجيج الذي يعمُّ حياتنا أنهم يدفعوننا إلى الموت في كل مرة ويقدمونا قرابين لشعارات لا وجود لها في حياتنا، ففي كل مرة يبتكرون لنا شعارا زائفا نموت لأجله ومن أجله، وإذا ما فكرنا في حقوقنا الإنسانية في العيش الكريم، بل حقنا في الوجود كأناس لهم حقوق وعليهم واجبات، يكون الرد جاهزا “احذروا هذه الهرطقات، إياكم والخونة المندسين، لا مكان للجبناء بيننا، الموت لأعداء الوطن”. أسعى في هذه المقالة لأن أشارككم التفكير في محاولة لا أدعي أنها بالضرورة موفقة أو غير مسبوقة لتفكيك مفهوم السيادة في ظل واقعنا اليوم، في محاولة لنفهم هل الشعارات التي يراد لنا أن نموت لأجلها تستحق هذا العناء أم لا. ولنبدأ بالأرض والحدود التي تفصل بيننا والتي تُحدد المساحة القُطرية “بضم القاف” لكل كيان نعيش فيه، متسائلا من حددها؟ ومن رسمها؟ ومن قسمها؟ وهل كان لنا رأي أصلا في قبولها أم لا؟ وكم عمر هذا التقسيم والقسمة؟ وتلك الأرض التي ندعي بأنها أرض الأجداد من كان يمتلكها قبل آخر جد نحفظه في شجرة أنسابنا التي بها نتباهى ونفاخر. وسأسمح لنفسي بمواصلة التساؤل والأسئلة فأسأل عن القرارات والقوانين، الضلع الثاني في تعريف السيادة الوطنية الموهومة، فأقول “هل تستطيع أي دولة من دولنا بل من دول العالم، باستثناء الكبار والكبار جدا، أن تتخذ قرارا أو تسنُّ تشريعا يتعارض مع ما اصطلح على تسميته بالقانون الدولي أو مقررات مجلس الأمن، ولماذا نجلس خلف التلفزيون نتابع باهتمام وحرص ما سيقرره مجلس الأمن من قرارات في حق دولنا، نبتهج تارة ونبتئس تارة أخرى؟ وهل يمكن أن تكون لنا سيادة بل وجود أصلا دون أن تعترف بنا قيادة مجلس الأمن؟ لماذا نهتم بحرص شديد بمتابعة نتائج انتخابات الرئاسة والبرلمان وشكل الحكومة في الدول الكبار رغم أن ما يفصل بيننا بحور ومحيطات وأميال وأميال. أموالنا الضلع الثالث لمفهوم السيادة الوطنية والسيطرة عليها، لنسأل أين تطبع أموالنا؟ وأي تُخزّن؟ ووفق أي نظام مصرفي نتعامل؟ وهل نستطيع أن نقول لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي “لا” عندما يتم وضعنا أمام خيار إما الاقتراض وإما الانقراض، فنقترض ملبين كل الشروط دونما حرج تحت شعار جديد قديم هذه المرة “المصلحة الوطنية”، بعد أن فشل مصطلح “السيادة الوطنية” في أن يؤدي مفعوله في هذه الحالة. حتى النفط الذي نتباكى عليه ونموت في سبيل تقاسم إيراده محليا لا علاقة لنا باستكشاف آباره ولا استخراجه ولا تحديد سعره ولا حتى تصنيعه، وإن توهمنا غير ذلك، حتى حراسته وتأمينه لا يقعان ضمن اختصاصنا، فمهما اندلعت الحروب فآبار النفط وموانئه دائما في مأمن. وإذا اتجهنا صوب أحزابنا ألسنا نسمع ونرى عن صلات بين هذا الحزب وذاك بسفراء الدول الكبار وحج لعواصم صنع القرار كلّ يسعى لتقبيل يد الأخ الأكبر كي يمكنه من الوصول إلى سدة الحكم، وهنا أيضا سيختفي مفهوم السيادة الوطنية المخصص لسوقنا للموت ويحل محله مصطلح السياسة مصالح وسيكثر الحديث عن الواقعية السياسية. هذا غيض من فيض على مستوى الدول، وأما على مستوى الأفراد فإذا تمعّنا في هواتفنا التي نصفها بالذكية، سنعرف كم نحن بلا خصوصية، أليس كل خدمات الاتصالات سواء هاتفية أم سيبيرية كما يحلو للبعض تسمية الإنترنت مركزها ومخزنها دول الكبار، أتريد أن تعرف حجم قدرتهم على رصدنا تمعن في جهاز هاتفك، أليس بإمكانك كمستعمل لا حظّ له من خبرة تقنية ولا تبحر في علوم هندسية أن تسجل المكالمات وتلتقط الصور وتحدد المواقع على الخارطة وتعرف بدقة الطرق المزدحمة والبدائل لها ومتى ستصل إلى مقصدك؟ أليس في وسعك أن تتابع سير طائرة وعلى أي ارتفاع تطير وهويتها وكل المعلومات المتعلقة بالمالك والمشغل ومن أين انطلقت وأين ستهبط؟ ألا تقوم ما تُعرف بمواقع التواصل الاجتماعي بتكوين ملفات عن كل مستخدم وترسم شبكة علاقاته بالآخرين، وعاداته وسلوكياته، وماذا يحب وماذا يكره؟ تذكرك بمواقفك السابقة وتخبرك بمن يوجد بجوارك في الحي من أصدقاء ومعارف، ونجلس يوميا نملأ بكامل وعيننا وثائق التعارف. إذا كان هذا وأكثر متاح لنا، فماذا يملك الكبار وماذا يعرفون عنا؟ وهنا أسأل أنا كمواطن وكإنسان ماذا سأستفيد من كل هذه الشعارات وماذا استفدت؟ ومن الذي دفع ويدفع دوما ثمنا باهظا لأجل هذا الشعار أو ذاك؟ أنا كمواطن ماذا عن سيادتي كإنسان وحقي في التعليم والصحة والبيئة اللائقة بي كإنسان والعمل والتنافس المبني على قواعد واضحة تسري على الجميع، ماذا عن سيادتي في أن يكون لي صوت مؤثر ورأي يناقش ولا يُقمع؟ ما نسميه السيادة الوطنية اليوم هو أشبه بقائمة طعام في مطعم يديره أقوانا، يحدد لنا من خلال هذه القائمة عددا محدودا من الخيارات وإن تنوعت أو كثرت، يقدمها لك لتختار من بين ما اختار لك، فإن رفضت القائمة ستبقى جائعا بائسا ولا عزاء لك. وستكون محظوظا فقط عندما تتوفر لك القدرة كي تختار من بين المطاعم أيّ منها يقدم لك قائمة أفضل وخيارات أحسن وبسعر يناسب ميزانيتك، طالما لا تستطيع أن تصنع طعامك وتكون لك بالتالي خياراتك المفتوحة. كاتب وصحافي ليبي سراب/12

مشاركة :