مايكل هانيكه يعود إلى الأسرة في "نهاية سعيدة" بقلم: أمير العمري

  • 6/11/2017
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

فيلم نهاية سعيدة يمثل امتدادا للهاجس الشخصي المسيطر على أفلام المخرج النمساوي مايكل هانيكه المهموم بمشكلة الانهيار الاجتماعي من خلال ما يحدث داخل العائلة.العرب أمير العمري [نُشر في 2017/06/11، العدد: 10660، ص(16)]العائلة مجتمعة في الحفل قبل النهاية بمفاجأة عاد المخرج النمساوي الكبير مايكل هانيكه مجددا إلى مهرجان كان السينمائي بفيلمه الجديد “نهاية سعيدة” الذي تدور أحداثه في مدينة كاليه الفرنسية الشمالية الواقعة على بحر المانش والمعروفة بوجود معسكر إيواء اللاجئين الذين يريدون الانتقال منها إلى بريطانيا، لكن موضوع الفيلم ليس موضوع الهجرة، بل امتداد للهاجس الشخصي المسيطر على أفلام هانيكه المهموم بمشكلة الانهيار الاجتماعي من خلال ما يحدث داخل العائلة. الفيلم الجديد يدور داخل عائلة من الطبقة البورجوازية الكبيرة الفرنسية، بشخصيّاتها التي تنتمي إلى ثلاثة أجيال: الجد والأبناء والأحفاد، كيف تنعكس عليها أزمات الواقع، كيف أصبحت تفتقر على نحو مروّع، للحب، للتفاهم، وللفهم المشترك، وكيف أصبحت عاجزة عن إدارة أزماتها الداخلية بعد أن أصبحت خاوية الروح، مهزومة، تبحث عن الخلاص ولو بالانتحار. “نهاية سعيدة” يمكن اعتباره فنيا مزيجا من الدراما الرمزية والكوميديا السوداء. وفيه يعبر هانيكه -الذي يعمل في إطار السينما الفرنسية- عن فكرة غياب الحبّ والانشغال بالبحث عن الثروة عن طريق تنمية الملكية أو إنقاذها من الضياع، والعجز في الوقت نفسه عن تحقيق السعادة من خلال الثروة. إنه يرى أن عجز العائلة الكبيرة رمز لأوروبا التي فقدت قدرتها على الفعل على تجاوز الأزمات والاكتفاء بتصديرها. لدينا أولا “جورج لورون” (يقوم بدوره جان لوي ترنتنيان) وهو الأب-الجد وعميد الأسرة ومؤسس شركة الإنشاءات العقارية، لكنه أصبح الآن يستخدم مقعدا من مقاعد المعاقين بعد أن تقدّم به العمر وأصبح يعاني من الوهن الشديد، بل إنه لم يعد يرغب في مواصلة الحياة التي لا يرى فيها بصيص أمل. العائلة رمز للمجتمع جورج لم يعد يقدر على التلاؤم مع أفراد عائلته المتصارعين اللاهين عمّا يحدث من حولهم، فهم يستغرقون في صراعاتهم وانشغالاتهم بالأمور الصغيرة، وهو يصارح الحلاق الإيطالي الخاص الذي يحضر إلى منزل العائلة الفخم بأنه قد سئم الحياة، ويطلب منه أن ينهي حياته مقابل مكافأة مالية سخية يعده بها، (طبقا لمفهومه البورجوازي)، ورغم تلويحه مرارا بالإغراء المالي، يرفض الحلاق بإصرار لداوفع أخلاقية.. ثم نرى جورج وهو يتحادث عن بعد مع مجموعة من اللاجئين الأفارقة في شوارع كاليه (لا نسمع الحوار أبدا) لكننا نفهم فيما بعد أنه عرض عليهم ساعة يده القيمة مقابل مساعدته على إنهاء حياته فهو حسب مفهومه السلعي في المبادلة التجارية لكنهم يتركونه ويبتعدون في ازدراء، ثم تأتيه الفرصة أخيرا ولكن هذه المرة من شخص غير متوقّع، من حفيدته الصغيرة “إيف” (وهي في الثانية عشرة من عمرها).. فهل تقدم إيف على ارتكاب المحظور؟ الابنة “آن” (التي تقوم بدورها إيزابيل أوبير) التي تولّت مقاليد الأمور في الشركة، تحاول أن تنقذها من السقوط في ظلّ الأزمة الاقتصادية القائمة، تتأهّب لإعلان خطوبتها من مدير البنك الثري الإنكليزي (لورنس) الذي يساعدها في إنقاذ الوضع المالي للشركة، وتضغط على ابنها الشاب “بيير” حتى يرتفع إلى مستوى المسؤولية، تريده أن يتولّى تسيير الأمور في الشركة، بينما يبدو بيير نفسه، كونه الأكثر حساسية، عاجزا عن التكيف مع محيطه، رافضا أجواء النفاق والتظاهر الكاذب، وهو رغم اضطرابه النفسي بسبب توتر علاقته مع أمّه، وغياب الحب فيما بينهما، الأكثر إدراكا للوضع المقلوب للعائلة والأكثر قدرة أيضا على التعبير عن الرفض والغضب والازدراء، وعندما يثور خلال حفل خطوبة أمّه يقوم بإحضار مجموعة من اللاجئين الأفارقة البؤساء إلى الحفل بغرض مواجهة العائلة أمام نفسها، وصدمة الجميع بذلك التناقض بين حياة العيش الرغد والثراء، وبين هؤلاء الباحثين عن فرصة للنجاة. إنه يريد أن يجعل العائلة تشعر بالذنب، ويسخر علانية أمام الجميع من تعاملهم العنصري الفظ مع الخادم المغربي الأمين “رشيد”، وزوجته “جميلة” رغم التظاهر باحترامهما وتقديريهما.جورج في انتظار نهاية لا تأتي هواجس جنسية هناك أيضا “توماس” ابن جورج أي شقيق آن ووالد إيف الذي جاء بابنته الصغيرة إلى كاليه للإقامة في منزل العائلة بعد أن انتحرت أمّها بتناول جرعة كبيرة من الحبوب المنومة (في أحد المشاهد التي ترتد في ذاكرة إيف نشاهدها أثناء زيارة أمّها في المستشفى). لكن توماس الذي يقيم في منزل العائلة مع زوجته الثانية “أنياس” التي أنجبت له طفلا رضيعا هو “بول”، لا يحب أنياس بل يرتبط بعلاقة سرية خاصة عبر الفيسبوك مع امرأة يتبادل معها كل ليلة “التشات” ويطلب منها التعرّي ويتحدث الاثنان عن هواجسهما الجنسية الصريحة. أما إيف التي تشعر بانعدام الأمان فهي ترى أن والدها يمكن أن ينفصل أيضا عن “أنياس” وتخشى بالتالي أن يضعها في منزل لرعاية الأطفال وهي تتسلّل إلى جهاز الكومبيوتر الخاص به تخترق حسابه وتطّلع على أسراره، ثم تعترف له بأنها اطلعت على مخاطباته وأحاديثه مع عشيقته عبر موقع التواصل الاجتماعي. مواقع التواصل واليوتيوب وعالم التليفون المحمول كلّها مجسّدة في الفيلم من خلال نظرة هانيكه الساخرة، فهو يريد أن يصوّر كيف أن الإنسان الأوروبي الذي يتصوّر أن هذه الوسائل الحديثة جعلته أكثر حرية عن ذي قبل، قد أصبح في الحقيقة أسيرا لها يعيش من خلال “وهم الصورة”، رغم واقعيتها. إنه بالتأكيد يدين هذا الإفراط وهذا الإدمان السيبرنطيقي. يبدأ هانيكه فيلمه بلقطات مأخوذة من على شاشة أحد تلك التليفونات الحديثة “الذكية”، لموقع إنستغرام، حيث نرى شخصا ما (غير واضح) يتلصّص على امرأة تتبوّل ثم تغسل أسنانها في الحمام ويكتب (عبر التشات) لصديق على الطرف الآخر، يصف له الطقوس التي تقوم بها المرأة (التي غالبا هي أمّه) ما قبل النوم، ثم نشاهد لقطة لفأر منزلي صغير يطعمه صاحبه عقاقير مخدرة ليختبر تأثيرها عليه. والمشهد طويل وصامت، ويستغرق عدة دقائق، يريد أن يوصل لنا رسالة حول الميديا الجديدة. بعد هذا المشهد مباشرة ننتقل في لقطة عامة إلى موقع إنشاءات ثم انهيار جدار فوق رأس أحد العمال (سنعرف فيما بعد أن هذا الموقع تابع لشركة العائلة، عندما تطلب آن من ابنها بيير أن يذهب ليدفع تعويضا ماليا لأسرة الرجل ضحية الحادث، لكن ابنه يعتدي عليه بالضرب المبرح. طريقة السرد أسلوب هانيكه في السرد هنا يراهن كثيرا على ذكاء المتفرج. إنه ينثر لقطات متفرقة هنا وهناك.. يعرض جانبا من هذه الشخصية أو تلك، ويتركها مبتورة، فلا يمكننا بسهولة أن نتعرف منذ البداية على العلاقات الملتبسة بين شخصيات الفيلم، وفي النصف الثاني من الفيلم يساعد هانيكه المتفرج قليلا في تجميع هذه النثرات والمشاهد واللقطات المتفرقة، بعد أن يكون المتفرج قد أصبح أكثر وعيا بالصورة العامة للموضوع، فالتفكك الظاهر أو التشظي، هو جزء من عالم العائلة نفسها، ولجوء هانيكه للّقطات الطويلة العامة البعيدة، والكاميرا الثابتة في معظم المشاهد مع ندرة استخدام الموسيقى يمنح الفيلم حساسية ومذاقا خاصا يعتمد على الحدس وعلى الاستنتاج أكثر من ما يعتمد على الشروح والتفسيرات. بل تظل هناك حتى النهاية الكثير من النقاط الغامضة. إن أسلوب هانيكه أسلوب بارد قاس صارم في بناء المشاهد وتصميم اللقطات، وهو لا يترك أي تفصيلة دون العناية بها داخل المشهد. هناك مشهد واحد طويل تتحرّك فيه الكاميرا عندما يخرج جورج بمقعده المتحرك من منزله تدفعه الحفيدة إلى أسفل، ثم يذرع وحده بمقعده الشارع في وسط المدينة، ويظلّ يسير ويسير إلى الأمام والكاميرا تراقبه من الجانب الأخر، من على الرصيف المقابل، إلى أن يتوقف أمام مجموعة من اللاجئين الأفارقة يساومهم بشكل غامض كما سبقت الإشارة. في اللقاء الوحيد المباشر بين الجدّ (جورج) والحفيدة (إيف) تعترف إيف لجدها بأنها أرادت ذات مرة أن تقتل زميلة لها في المدرسة لأنها كانت تكرهها.، ثم يعترف لها جورج بأنه قتل زوجته قبل سنوات لإشفاقه عليها من المرض اللعين، في إشارة واضحة إلى الفيلم السابق لهانيكه “حب” (2012) خاصة وأن الممثل واحد وهو جان لوي ترنتنيان، والاسم واحد وهو “جورج”، وأن الابنة تقوم بدورها نفس الممثلة التي كانت في “حب” وهي إيزابيل أوبير، ولكن بعد أن أصبح اسمها هنا هو اسم الأم في “حب” وهو “آن”، بينما أصبح اسم الحفيدة هو “إيف” بعد أن كان هو اسم الابنة (أوبير) في الفيلم السابق. ولكن المشكلة أننا في نهاية فيلم “حب” شاهدنا جورج يغلق نوافذ شقته الباريسية (لم يكن هناك منزل في كاليه) ويلصق شرائط حول حواف النوافذ ثم يفتح أنبوب الغاز. فهل نجا جورج من الموت وأصبح الآن يرغب في أن يلحق بزوجته؟الابنة "آن" مشغولة بالمحافظة على إرث العائلة سنعثر هنا أيضا على “تيمات” هانيكه المفضلة: التشاؤم من المستقبل، فكرة الجهل التام بما يحدث في الخارج، متاهة اللاجئين، العالم الخارجي وكيف يعاد تشكيله (هناك بعض اللقطات لأخبار التلفزيون بينما أفراد العائلة لاهون عنها تماما)، الأطفال ضحايا للكبار لكنهم يختزنون طاقة من الشر في داخلهم (راجع أيضا فيلم “الشريط الأبيض)، الصراع بين الأجيال لن ينتج سوى التفسخ العائلي والتفتت الاجتماعي، والتكنولوجيا الجديدة تزيد من عزلة الفرد والجريمة كامنة وقد تأتي لتفاجئنا في النهاية، وهي قد تكون حلاّ أو خلاصا، وقد تكون وبالا. جورج يريد أن تساعده “إيف” في الوصول إلى نهايته، وهي تنظر إلى الأمر على أنه لعبة شريرة، تستمتع بها، فتندفع لنصل إلى مشهد سيريالي أقرب إلى الكوميديا الهزلية في النهاية. لكن هنا تحديدا يكون “لغز” هانيكه قد بلغ ذروته. ما هذه النهاية التي لا تأتي لا بالحل ولا بالخلاص، صحيح أن السعادة فكرة نسبية، إلا أن ما نشاهده في الفيلم لا علاقة له بالسعادة، فالعنوان يظل تعليقا ساخرا، تماما كما يظل مصير جميع أفراد العائلة معلقا، ربما في انتظار الفيلم التالي لهانيكه. من دون الممثل الكبير جان لوي ترنتنيان لم يكن الفيلم يتمتع بما يتمتع به من تأثير رغم اضطراب البناء بعض الشيء، وإهمال متابعة بعض الشخصيات كما كان ينبغي، وصعوبة مسار السرد في النصف الأول من الفيلم، إنه أقل بالتأكيد من أفلام هانيكه السابقة لكنه مازال يعكس مزاجه وهواجسه وأسلوبه. إن ترنتنيان في دور جورج، يثبت مرة أخرى أنه أحد الممثلين العظام في عصرنا بل وفي كل العصور، بقدرته الهائلة على التماهي مع الشخصية والإضافة إليها من خبرته الإنسانية بعد أن أصبح كهلا متمرّسا في التمثيل لم يفقد أبدا شهيته للإبداع. وكعادتها تبرع إيزابيل أوبير في دور “آن”، في دور اعتادت عليه كثيرا، دور المرأة العملية الباردة الصارمة التي تخفي مشاعرها أو تعجز عن التعبير عنها، تريد أن تحتد وتصفع بل وتستخدم أيضا العنف، لكنها مقيدة بقيود التظاهر التي تتميز بها الطبقة التي تنتمي إليها، ورغم ذلك فهي تخرج عن وقارها في الحفل وتعتدي على ابنها لتسكته. ولا شك أن الاكتشاف الحقيقي للفيلم هو الممثلة الطفلة فانتين هارديم في دور “إيف” (سبق قيامها بأدوار عدة في أعمال تلفزيونية)، فهي تجيد التعبير عن الشخصية المسندة إليها، وتصمد بشكل مدهش أمام ترنتنيان العجوز، بل وتبدو الكيمياء بينهما أفضل ما يكون. ناقد سينمائي من مصر

مشاركة :