في مهرجان برلين السينمائي الـ68: عودة الحياة حسب أغفا من إسرائيل بقلم: أمير العمري

  • 2/18/2018
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

الشخصيات في الفيلم تعكس التناقضات القائمة في المجتمع الإسرائيلي، حيث يختار المخرج تصوير ما يقع من مواجهات متعددة.العرب أمير العمري [نُشر في 2018/02/18، العدد: 10904، ص(15)]فتاتان في الحانة وفي الخلفية صورة ليهودي وثلاثة أطفال في أوشفتز كعادته يخصص مهرجان برلين السينمائي قسما للأفلام الكلاسيكية القديمة أو الكلاسيكية الحديثة، التي تم ترميمها واستعادة ألوانها الأصلية بواسطة التقنيات الرقمية الحديثة بعد أن أصبح هذا القسم من الأقسام الراسخة المميّزة في مهرجانات السينما العالمية. فالمهرجان ليس احتفالا بالجديد فقط بل يريد أيضا تذكير عشاق السينما في العالم بالأفلام التي أثارت في زمانها اهتماما وأثارت النقاش كما أنها مازالت تحتفظ بقيمتها الفنية. في الدورة المقامة حاليا، وهي الـ68 من عمر “البرليناله” كما أصبح الألمان يطلقون عليها، يشاهد الجمهور ثمانية من هذه الأفلام من بينها “أجنحة الرغبة” (أو الملائكة فوق برلين) 1987 للمخرج الألماني فيم فيندرز، الذي يعود إلى الشاشات في نسخة جديدة مستعادة بواسطة تقنية الـ4K. هناك أيضا الكلاسيكية السوفييتية البديعة “البجع الطائر” (1957) للمخرج ميخائيل كالاتوزوف، الذي كان الفيلم الأول الذي يخرج من الاتحاد السوفييتي في الفترة التي وصفها إيليا إهرنبورغ بـ”ذوبان الجليد” حسب عنوان روايته الشهيرة، إشارة إلى بدء سياسة أكثر انفتاحا مقارنة بسياسة القبضة الحديدية التي سادت تحت حكم ستالين. والفيلم المصور بالأبيض والأسود، يروي قصة حب تدور في أجواء الغزو الألماني للأراضي الروسية خلال الحرب العالمية الثانية. وقد ساهمت شركة “موسفيلم” في عملية تحويل الفيلم من نسخة سينمائية إلى نسخة رقمية. أما الفيلم الذي يعتبر مفاجأة ضمن أفلام هذا القسم الخاص فهو الفيلم الإسرائيلي “الحياة حسب أغفا” (Life According to Agfa) الذي أخرجه عام 1992 عساف ديان، ابن وزير الحرب الإسرائيلي الراحل موشي ديان، وكان معروفا بمواقفه الليبرالية ونقده للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية وتأييده للحوار العربي ـ الإسرائيلي وضرورة تحقيق السلام مع الفلسطينيين طبقا لحل الدولتين. وكان عساف ديان ممثلا ومخرجا أخرج 16 فيلما قبل وفاته عن 68 سنة عام 2014. أما “الحياة حسب أغفا” وهو أهم أفلامه فقد حصل على جائزة أحسن فيلم إسرائيلي، كما حصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي عام 1993. الفيلم مصور بالأبيض والأسود، وهو اختيار مقصود. ففي الفيلم فتاة شابة عاملة في حانة، وهي في الوقت نفسه مصورة تلتقط صورا للزبائن الذين يترددون على الحانة وتفضل استخدام أفلام “أغفا” من نوع الأبيض والأسود، وكأن المخرج يقول لنا إن الألوان لم يعد لها وجود في العالم الذي يراه حوله. وعالم الحانة الذي يعتبر هنا المعادل الرمزي للمجتمع الإسرائيلي، ويفتتح الفيلم بعبارة تظهر على الشاشة تقول إن “ما سنشاهده في الفيلم هو ما سيحدث بعد عام من الآن”.صورة مصغّرة لمجتمع فقد الإحساس وانعدم فيه التجانس والانسجام، وغاب الشعور بالأمان بعد أكثر من أربعة عقود من الانتصارات العسكرية في المواجهات المسلحة مع العرب لا يتضمن الفيلم “حبكة” روائية تقليدية، فهو مزيج من الصور والمواقف والتفاصيل والشخصيات التي لا يجمع بينها سوى المكان الذي تتردد عليه، أي الحانة، كما تعكس هذه الشخصيات التناقضات القائمة في المجتمع الإسرائيلي. يختار المخرج تصوير ما يقع من مواجهات متعددة داخل الحانة خلال 12 ساعة فقط، من المساء حتى صباح اليوم التالي. وأهم شخصيات الفيلم ضابط الشرطة السرية (الشاباك)، وهو شاب يبدو من الخارج مفتونا بنفسه، يرى أنه يجب أن يحظى بكل احترام وهيبة من جانب الآخرين، لكنه ضعيف هش من داخله. وهو يحاول أن يستر إحساسه بانعدام الثقة عن طريق الجنس، فيمارس الجنس مع كل من تقابله ويمكنه التقاطها من الطريق، مستغلا عادة الظروف السيئة لضحاياه. أولى هذه “الضحايا” التي يوقعها في حبائله المصورة الفوتوغرافية التي تنتقل لتقيم معه في مسكنه، وسرعان ما تكتشف أنانيته وشخصيته الكريهة فتهجره دون أن تهجر المسكن. ثم يلتقط فتاة أخرى جاءت إلى تل أبيب بحثا عن عمل، فيلقيها سوء حظها في طريقه، ليقيم معها علاقة جنسية ثم يلفظها. وفي لحظة إحساس بالضياع التام تلقي الفتاة بنفسها من نافذة مسكنه دون أن يدرك.. بل إنه يعبّر بعد ذلك، من أمام جثتها الملقاة أسفل منزله دون أن ينتبه إليها. يتردد الضابط بانتظام على الحانة التي تعتبر مقر عمله الحقيقي، لكي يراقب الزبائن عسى أن يكون من بينهم بعض المجرمين والمهرّبين والخارجين على القانون. صاحبة الحانة امرأة في خريف العمر تقيم علاقة عاطفية مع رجل متزوج، تحاول أن توهم نفسها بالسعادة عن طريق اقتناص لحظات قليلة تلتقي فيها حبيبها في منزلها مساء كل يوم. لكنها لا تعرف سوى في وقت متأخر، أن الرجل مريض بالسرطان، وأن أيامه في الحياة باتت معدودة. يصبح حلمها الشخصي البسيط مهددا بالزوال لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئا. يغشى الحانة ضابط (كولونيل) في الجيش الإسرائيلي، مصاب في رأسه، تحيط به مجموعة من الجنود والضباط الذين أتوا به من المستشفى بغرض اللهو وتغيير الجو. يتحرش الضباط بكل من يتردد على الحانة، يوجهون لهم شتى الإهانات، يحاولون الاعتداء على فتاة قادتها الأقدار إلى الحانة، ثم يكتشفون وجود اثنين من العمال العرب يعملان في مطبخ الحانة، فيقومون بالتنكيل بهما دون شفقة، ويوشكون أن يفتكوا بهما لولا تدخل ضابط الشرطة السرية الذي يحذر ضابط الجيش من مغبة ما يقوم به مع جنوده.الضابط مع صاحبة الحانة يتردد على الحانة اثنان من اليهود الشرقيين، من الخارجين على القانون، شعورهما بالاضطهاد نتيجة لون بشرتهما يجعلهما أيضا يتحرشان بالموجودين من اليهود الاشكينازيين (الغربيين).. يطالبان المغني بأن يكف عن إنشاد الأغاني الغربية وأن يغني أغاني شرقية. يتألف شريط الصوت في الفيلم من مجموعة كبيرة من الأغاني والأناشيد التي تتردد في الحانة أو على لسان ضابط الشرطة تارة، أو ضابط الجيش ومجموعته تارة أخرى. وهي في معظمها تتغنى بالانتصارات العسكرية الصهيونية، أو تردد كلمات تشي بالخوف من المصير المجهول المنتظر في ظل حالة الصراع المستمرة. لا نعرف ما إذا كانت إصابة ضابط الجيش ـ كما يقول ـ نتيجة اشتراكه في إحدى المناورات، أو كما تقول صاحبة الحانة، نتيجة انغماسه في ممارسة القتل والعنف في جنوب لبنان. تتناقض الأغاني التي تتغنى بالقوة والنصر مع الحالة العامة لشخصيات عدمية تبدو وقد سقطت في مستنقع فاسد، تلخص صورة مصغرة لمجتمع تل أبيب: انهيار في القيم الاجتماعية، تناقضات حادة بين الأفراد، دموية ما يسمّى بـ”الحلم الصهيوني” وما بلغه من عنف وانحدار، إلا أن أكثر الضحايا الذين يدفعون الثمن مضاعفا هم الفلسطينيون، كما نرى. العنف المجنون هو الطابع الغالب على هذا الفيلم، وهو عنف ناتج عن أيديولوجيا كانت دائما تغذيه وتتغنى به عبر أجيال. بحيث أصبح هذا العنف الآن مصدر الخطر على الكيان الصهيوني نفسه. ضابط الشرطة الذي يفترض أنه يقوم بحفظ الأمن، لا يستطيع أن يحمي نفسه من التهديد الذي يواجهه بفقدان وظيفته أو بنقله للعمل في جنوب لبنان. إنه يفشل في القبض على المجرمين من تجار المخدرات، يتلقى ضربة قوية على رأسه، يحاول أن يوهم نفسه بالتفوق الجنسي بينما نرى كيف أصبح عاجزا عن الفعل الجنسي. الفتاة التي تعمل في الحانة على تسلية الزبائن، أدمنت المخدرات، وهي تحلم بتأشيرة وتذكرة للسفر والهجرة إلى أميركا فرارا من الواقع المحبط المنهار. اليهود الشرقيون الذين يعانون من التفرقة العنصرية، يعودون صباح اليوم التالي لتحطيم الحانة والفتك بالجميع. إنها صورة مصغّرة لمجتمع فقد الإحساس وانعدم فيه التجانس والانسجام، وغاب الشعور بالأمان بعد أكثر من أربعة عقود من الانتصارات العسكرية في المواجهات المسلحة مع العرب. هنا تكمن أهمية الفيلم كشهادة على الدمار الداخلي الذي تتعرض له إسرائيل أمام الصمود الفلسطيني والمقاومة أو أن هذه كانت الصورة وقت ظهور الفيلم، أي في زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة).. وتكمن قيمة الفيلم فيما يكشف عنه من فزع الرغبة في الهروب من مواجهة الواقع، والاستمرار في الرقص على أوهام القوة. ناقد سينمائي من مصر

مشاركة :