لا شك بأن الرواية العربية المعاصرة تعد رافداً من روافد الصراع الأيديولوجي الذي يتمازج بين ضدين متنافسين: المتأصل بالمرجعية، والآخر الدخيل، وهي تعبر عن حالة من الإخفاق في تحقيق المواجهة المعرفية، تحديداً بعد تضاؤل مفهوم النهضة مما توصم به الذهنية العربية، ويقدّم إلى الآخر كخدمة تقف خلف غطاء اسمه الإبداع وحرية الكتابة خاصة بعد كلّ هذه التداعيات المكثفة من النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية، وغيرها من التباسات الواقع المعاش، التي بدت لنا الشخصيات الإنسانية فيها أحمد الدويحي: الرواية الجنس الأدبي الأخير الذي يشكل الذائقة المجتمعية بعد الشعر (ثانوية، هامشية وغير فعالة) وهي التي رسمت ملامحها الخاصة بالرؤية والتشكيل، وقدمت أسئلتها حول الذات والعالم، من أجل تجاوز منظومة القيم الموروثة التي أصبحت آيلة إلى الخلخلة والتمزّق في سياق ترك أثره الحالي على ثقافة الشعب متوازيا في ذلك مع هيمنة الانفتاح، مما يعني التأسيس لبُنَى فكرية جديدة تتعايش في ظل المثاقفة وترسخ لقيم مستقاة كبدائل تستوطن استباحة الممنوع كاستراتيجية لا تنحصر في مجرد حالة مؤقتة، بل تستعمر في شكل فني له أبعاد عميقة التي تسلب قوامه من التوترات الحاصلة على مستوى الكتابة الروائية. عبدالله التعزي: ليس من واجبات الرواية أن توجه الذائقة الجمالية بقدر إثارة الأسئلة وفتح الأفق نحو الأجمل أو المختلف بداية قال أحمد الدويحي وهو كاتب سردي حول هل نجحت في محاولة التأثير على القيم الاجتماعية :" الرواية في بلادنا كانت الجنس الأدبي الأخير الذي يحضر بعد الشعر الذي يشكل الذائقة المجتمعية ومجتمعنا هو مجتمع شعري بالدرجة الأولى فالذي لا يقول الشعر وليس شاعراً في مجتمعنا هو حافظ لشعر أو متذوق أو راوية له وكانت القصة القصيرة هي الجنس الأدبي الثاني التي شكلت حضوراً مجتمعياً وكتابياً مكثفاً خلال العقود الماضية وبقيت الرواية كجنس أدبي تعنى بكشف المستور وملامسة شمولية لتحولات المجتمع السعودي تكتب على نطاق ضيق جداً نظراً لمحاذير مجتمعية سياسية ودينية في ما يسمى (التابو) ولكننا وجدنا بعد الحادي عشر من سبتمبر ودخول التقنية الحديثة في حياتنا أن الرواية المعاصرة تحضر بقوة ويكتبها الجنسان من الرجال والنساء وفي كل مناطق المملكة تقريباً وبتنا نقرأ روايات محلية تعبر عن هذا التنوع المجتمعي الذي يمثل قيم بلادنا المترامية الأطراف وهي بالتالي تعكس الكثير بطبيعة الحال من القيم والمفاهيم المجتمعية بتراثها وحضارتها وفلكلورها وأساطيرها عبر ما تقدمه من شخصيات ضاربة في جذور هذا المجتمع". زينب حفني: الرواية السعودية استطاعت القفز خارج الأسوار ونجحت في تحسين سمعة الرواية الخليجية ويؤكد الكاتب الدويحي حين سؤاله: هل يفترض في الكتابة الروائية السعودية المعاصرة أن تنتهك بالضرورة منظومة القيم الاجتماعية؟ حيث أجاب: "بالتأكيد الرواية هي فن شمولي ( فن كاشف) ومهمته كشف المستور وعدم حضورها في المجتمع السعودي المحافظ كان بسبب تقليدية هذا المجتمع ومحاولة البعض الخروج بعباءة المثالية إلى العلن وممارسة أبشع طرائق الموبقات سراً وهنا كان دور الرواية وهو الدور الذي ممكن أن تكمله فنون اخرى كالسينما والمسرح الذي يعد سيد الفنون فهو لن يكون إلا بوجود المرأة التي تمثل حضوراً قوياً لا يقل أهمية عن مسمار خشبة المسرح ولذلك هي لا تزال بعيدة عن هذا التشكيل الثقافي كما هي السينما بعيدة أيضاً والكتابة الروائية هي لا تحدد في البداية هدفها بأن تنتهك المحرمات ولكنها بالضرورة فن موازٍ يعكس الواقع بكل ما فيه والواقع بالضرورة يحمل الإيجابيات والسلبيات والرواية فن ناقد ويسعى لكشف المستور. د. حسين مناصرة: فكرة القيم الإنسانية العليا فكرة طوباوية بطريقة أو بأخرى! فيما تطرق الدويحي نحو محورنا هل أخفقت الروايات السعودية المعاصرة في توجيه الذائقة الجمالية لدى القارئ بما ينسجم مع القيم الإنسانية العليا وصولاً إلى قوله :"مهمة الأدب عموماً أو من مهمات الأدب هو رفع مستوى الذائقة الإنسانية والرواية المحلية وهي اليوم تشهد طفرة كتابية هائلة وتجد حضوراً لها في أكثر البلدان العربية وتحوز على جوائز دولية وتحقق قصب السبق بين نظيراتها العربية إنما يعكس هذا التراكم الجمالي والإنساني والفني الذي يحمله هذا المنتج وقد لاحظت في السنوات الأخيرة وأنا بالتحديد بعد الطفرة الأولى أرى أن هناك تعقلاً ونضجاً في الإصدارات الحديثة ويواكب هذا أيضاً وجود دراسات أكاديمية للجامعات السعودية من الجنسين ولفت نظري بصراحة الأسماء النسائية اللواتلي تخصصن في دراسة الرواية السعودية وحظين على درجات علمية عليا لقراءة هذا الفن الجميل". وعن الرهان الذي تقدمه الرواية السعودية المعاصرة يخبرنا الدويحي في ختام حديثه: "رهان الرواية المعاصرة طبيعي أن يكون المستقبل وأحلام الشباب والحرية هي رهانات أساسية للعالم الروائي ونحن نشهد أن كثيراً من الكيانات المجتمعية قد ضاقت بينها الفجوات واتسعت مساحات الحاور والشفافية والرواية المستقبلية التي نحلم بها لابد أن تستبطن كل العوالم بلا محاذير لتكشف لقارئها ما يجهله ولابد أيضاً بوجود التقنية الحديثة أن تحضر المعارف خصوصا إذا علمنا بأنه نسبة كبيرة من شباب الوطن يتلقون تعليماً عالياً وحتماً لابد أن ننتظر من روايتنا المحلية أن تحقق تنافساً يؤهلها أن تكون في مصاف الفنون المتداولة". كما تحدث الروائي عبدالله التعزي الذي تواصل معنا مشكوراً وهو المقيم حالياً في هيوستن - تكساس الولايات المتحدة الأمريكية حول الكتابة الروائية السعودية المعاصرة هل يفترض أن تنتهك بالضرورة منظومة القيم الاجتماعية فعبر عن ذلك بالنفي:" لا.. يفترض بالرواية ان تنتهك اي منظومة او اي شيء آخر يفترض بالرواية ان تكون رواية تعرض الواقع المتخيل من وجه نظر الراوي وتقدمه كواقع بديل من الممكن ان يعاش داخل العمل الروائي الى ان ينتهي وتتكون لدى القارئ تصورات مختلفة لواقعه المعاش من الممكن ان تتقاطع معه في مواقع ومن الممكن ان لا تتقاطع معه ابدا. ولكنها في النهاية تعطيه متعة المواجهه المختلفة لما هو واقع وتقدم له بعض الدهشة ان امكن في التفكير". في حين عبر التعزي حول أن كانت الروايات السعودية المعاصرة أخفقت في توجيه الذائقة الجمالية لدى القارئ بما ينسجم مع القيم الإنسانية العليا بقوله: "اخفاق الرواية من عدمة يحتاج الى ناقد متابع بصورة جيدة لما صدر من روايات سعودية حتى يتمكن من اصدار مثل هذا الحكم على الرواية. ولكن بصورة عامة ليس من واجبات الرواية ان توجه الذائقة الجمالية بقدر اثارة الاسئلة وفتح الافق نحو الاجمل او المختلف بصورة عامة عن السائد". وأخيراً عن سؤالنا حول رأيه فيما تراهن الروايات السعودية المعاصرة أجاب الروائي عبدالله التعزي: "تراهن الرواية السعودية المعاصرة على الاستمرار في تقديم الاجمل والمميز للمسيرة الانسانية الروائية". من جهتها قالت الروائية زينب حفني في سياق مجمل حول سؤالنا: هل نجحت في محاولة التأثير على القيم الاجتماعية؟: "إذا كنتِ من متابعي الأدب الروائي بالغرب، ستجدين بأن الفن الروائي قد اختلفت مضامينه عن الماضي. في رأيي كلما ارتفع الوعي الاجتماعي داخل مجتمع ما تقلصت فكرة المعالجة الاجتماعية، ولذا تجدي بأن الذائقة الجمالية غدت هي المسيطرة على أعمال مبدعي الروائيّة. الأمر يختلف عندنا، فمن الصعب على الروائي السعودي التمسك بالجماليات على حساب التغاضي عن قضايا مجتمعه التي ما زالت تقضُّ مضاجعه!، فالمثقف الحقيقي لم يزل يبحث عن المدينة الفاضلة التي ليس لها وجود في أكثر البلدان تحضراً. وأنا صغيرة كنتُ أهوى قراءة الروايات العالمية، وتعرّفتُ من خلال رواية (آنا كارنينا) على خبايا المجتمع الروسي بعهد القياصرة، واستطاع الروائي ديستويوفسكي بسرده المدهش انتقاد الأوضاع الاجتماعيّة والاخلاقيّة والسياسيّة التي كانت سائدة بتلك الحقبة التاريخيّة من خلال تجسيد مأساة غراميّة لامرأة. وهذا يعني بأن من الصعب على الروائي فصل عقله عن جسده حين يُمسك بقلمه ويتسكّع سرّاً في الأزقة والطرقات الخلفيّة. منظومة القيم الانسانيّة تختلف من مجتمع لمجتمع، ولذا من الصعب أن تقولي بأن الرواية السعودية قد حادت عن طريق الصواب أو رفعت شعار الطاعة لكل قيم مجتمعها، فأحياناً العرف الذي يتبع خطاه الناس قد لا يتوافق مع نظرة المبدع للحياة، لذا تجدين بأنه حريص على صب رؤاه في إبداعه الروائي مما يُشكّل صدمة لدى البعض! الرواية السعودية المعاصرة لم تزل أمامها تحديات كبيرة، حيث تواجه من الداخل محاولات لقص ريشها، ومواجهات أخرى من الخارج ترفض الاعتراف بشرعيتها وأنها قد شبّت عن الطوق ولم تعد بحاجة لراعٍ يوجه خطواتها. لكن الرواية السعودية بالرغم من ذلك استطاعت القفز خارج الأسوار، ونجحت الرواية السعودية في تحسين سمعة الرواية الخليجية، حيث ظل العالم العربي سنوات طويلة يتصدّر المشهد الروائي، فجاءت الرواية السعودية لتسحب البساط من تحت قدميه وتقول للعالم بأننا لسنا مجتمعات نفطيّة ملهيّة في استنشاق عبير الرفاهية وأننا مثل غيرنا مهمومين بقضايانا. الرواية السعودية سيكون لها الصدارة في المشهد العربي والعالمي بالعقود القادمة، لأن الروائي السعودي مصر على كسر قيوده وتفجير إبداعاته على الورق بقلمه الواعي". بدوره يشدد الدكتور حسين مناصرة - أدب حديث ونقد - تخصص السرديات بإضافته حول سؤالنا: هل يفترض في الكتابة الروائية السعودية المعاصرة أن تنتهك بالضرورة منظومة القيم الاجتماعية؟ " لا بدّ أن ننظر إلى طبيعة الرواية بصفتها تخييلاً ملتصقًا بالواقع، سواء أكان هذا الواقع حقيقيًا أم متخيلاً؛ لأنّ الرواية ابنة المدينة والحياة المعيشية والعلاقات الاجتماعية التمثيلية للحياة أو للذات.. وهذا يعني أنها تحدّ من الإيهام والتجريد والانزياح عن الواقع في بنيتها السردية عمومًا. وأضيف أيضًا أن الجرأة وكسر المألوف واختراق التابو.. من أهم الخصائص الجمالية للرواية عمومًا؛ لذلك من مسوغات المكون الروائي أن " ينتهك" منظومة القيم الاجتماعية الفاسدة أو الظالمة أو المهيمنة أو المستلبة لإنسانية الإنسان ولحقوق الآخرين. لعلّ كلمة "تنتهك" مضللة إذا أخذت بالمعنى الحرفي، وفي الوقت نفسه لا نقبل أن يقال "منظومة القيم الاجتماعية"مطلقًا، بدون وصف هذه المنظومة بالصفات السلبية المناسبة؛ أي أنّ الرواية لا يمكن أن تنتهك القيم الاجتماعية النظيفة؛ لأنها عمومًا تنتهك قيم الشر والفساد والظلم وغيرها. الرواية الحقيقية هي الرواية الفنية التي تجرأ على نقد الواقع أو هدمه في سياق النقد البناء والعلاج الحقيقي للآفات الاجتماعية (الظلم والفقر والجهل...)، وهذا هو دور الفن أو الإبداع على أية حال. لا أظن أن الرواية السعودية المميزة أو المهمة قد تجاوزت الحدود في تشريح منظومة القيم الاجتماعية. صحيح أنّ هناك روايات سطحية غير فنية ذات لغة "مبتذلة"، لا تبرر وجودها إلا من خلال الإثارة غير الفنية، ولكن هذه الروايات – في المحصلة- مجرد زوبعة تثور في لحظة ما، ثمّ تتلاشى. أخلص إلى القول: إنّ أهم سمة للرواية هي أن تكون جريئة في كشف الواقع وتعريته، وشرطها الأساس في ذلك أن يكون هذا الواقع مسكونًا بالشرّ مهما كانت طبيعة هذا الشر ودرجته!! ويتطرق الدكتور مناصرة حول هل أخفقت الروايات السعودية المعاصرة في توجيه الذائقة الجمالية لدى القارئ بما ينسجم مع القيم الإنسانية العليا عن:"فكرة القيم الإنسانية العليا فكرة طوباوية بطريقة او بأخرى، عندما ننظر إلى بنية الخطاب الروائي استنادًا إلى وظيفة الرواية بعيدًا الوعظ والإرشاد؛ أي أنّ الرواية يمكن أن تخوض في تابو ما، ويكون الهدف من ذلك أن يصنع المتلقي - في ذاته و في ما حوله- القيم الإنسانية التي يريدها. حينئذ، يفترض في أية رواية جيدة أن تقدم هويتها الرؤيوية والجمالية للمتلقي الذكي، ومن ثمّ على هذا المتلقي تقع المسؤولية الحقيقية، وهي مسؤولية أن "ناقل الكفر ليس بكافر" فالروائي عندما يتحدث عن فساد ما؛ فليس قصده أن يشيع الفساد بكل تأكيد، بل هو يقدم إشارات معينة، تبين أنّ هذا التصرف فاسد، وأنّ عواقبه وخيمة، وأن على الإنسان أن يحذر من مواطن الشر المماثلة أمامه في مقروئه للرواية عمومًا. يصعب أن أتحدث عن إخفاق الرواية السعودية في إيجاد ذائقة جمالية ذات قيم إنسانية عليا.. ربما هي أوجدت ظاهرة اجتماعية –ثقافية تنظر إلى الرواية من منظور أنها مفسدة لقرائها.. وهذا هو الخلل الثقافي الاجتماعي العام؛ لأن الروايات العالمية المشهورة توزع بالملايين، ورواياتنا المحلية لا نكاد نجدها في مكتباتنا. أعتقد أنّ الرواية السعودية جاءت إلى المشهد الإبداعي متأخرة، ومن ثمّ فهي تحظى بأهمية خاصة، في زمن صارت في الرواية "ديوان العرب"!! وأخيراً يضع الدكتور مناصرة الرواية السعودية المعاصرة في رهاناتها على المجال الإبداعي مضيفاً: "تراهن على أنّ الرواية ما زالت هي المجال الإبداعي المهم في الثقافة العالمية، وأنها الخطاب الإبداعي الوحيد القريب من الحياة الاجتماعية السائدة في المجتمعات المعاصرة، وأنّ بإمكانها أن تكون خطاب التحولات الاجتماعية مهما كان نوعها أو درجتها، وأنّ الجرأة في نقد الواقع ونقده هو الآلية المعاصرة في ظل الانفتاح والتحولات الديموقراطية وكسر التابو، وأنّ بإمكانها أيضًا أن تشكل عالمها الجمالي الخاص بها في سياق كونها جنس الأجناس الأدبية كلها وغير الأدبية أيضًا؛ بمعنى أنها تستوعب الأشكال الإبداعية وغير الإبداعية دون أن تفتقر مقوماتها السردية الرئيسة، إن لم يكن ذلك إثراء حقيقيًا لها".
مشاركة :