ضعف مفهوم المواطنة يسهم في تكريس النزعة العشائرية في تونسخيم هدوء حذر على محافظة قبلي جنوب تونس بعد مواجهات قبلية عنيفة شهدتها المنطقة، السبت الماضي. تسببت في إصابة أكثر من 78 شخصا بجروح متفاوتة في واحد من أسوء الصدامات ذات الطابع القبلي التي عرفتها البلاد بعد ثورة يناير 2011.العرب وجدي بن مسعود [نُشر في 2017/06/13، العدد: 10662، ص(4)]أبناء بلد واحد دون تمييز تونس - شهد محيط منطقة الفوار بمحافظة قبلي، جنوبي تونس، طوقا أمنيا مشددا بعد خشية تجدد المواجهات بين سكان قريتي الجرسين وبشني المتجاورتين بعد تدخل السلطات التي دعت وجهاء المنطقة إلى التهدئة. وقالت الجهات الرسمية إن المواجهات تعود إلى خلاف حول تحديد الحدود الترابية بين القريتين، بعد اعتزام السلطات المحلية إنشاء طريق حزامية تمر بالمنطقة. وأدى الخلاف إلى تطور الوضع واندلاع اشتباكات استعملت خلالها الهراوات وبنادق الصيد. وتفيد مصادر محلية أن التوتر القائم على خلفية تحديد الحدود بين القريتين كان قائما منذ فترة، على الرغم من تدخل مسؤولي المحافظة. وأعلنت المصادر عن تأجيل مشروع الطريق إلى ما بعد شهر رمضان وعقد لقاءات مع مجلسي تصرّف كلتا القريتين، للتعاون مع الجهات العقارية المختصة في ضبط الحدود الترابية المتنازع حولها. وأعلنت مصادر إعلامية، الاثنين، عن التوصل إلى اتفاق بين ممثلي الطرفين بعد جلسة صلحية انعقدت بمقر المحافظة، بإشراف الوالي (المحافظ) ونواب الجهة بمجلس نواب الشعب. ويتميز الجنوب التونسي بتركيبة عشائرية معقدة تهيمن قوانينها على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وتفرض خصوصية أهالي الجنوب على السلطات حذرا في التعاطي مع المنازعات الشائكة ومراعاة طبيعة تلك المناطق على مستوى الإدارة والحكم المحلي. ويبين خبراء بالشأن التونسي أن التركيبة الاجتماعية جنوب البلاد والتي تهيمن عليها التوازنات العشائرية تكتسي جذورا تاريخية منذ قرون طويلة، حيث تميزت القبائل المنتشرة على طول مناطق الجنوب والوسط الغربي لتونس بسقف عال من الاستقلالية عن السلطات المركزية. وواجهت كل الأنظمة المتعاقبة على حكم البلاد عبر التاريخ صعوبات كبرى في إخضاع هذه القبائل التي تنحدر أصولها من فروع بربرية وعربية. محمد صالح العبيدي: عودة التجاذبات القبلية نتيجة ضعف الدولة خلال الفترات الانتقالية واضطرت أنظمة الحكم إلى اعتماد سياسات تضمن ولاء الزعامات القبلية وعدم تمردها وإفرادها بتعيين عناصر محلية في تسيير المعاملات الإدارية. ويجمع المتابعون للمشهد التونسي على أن دولة الاستقلال فشلت في تجفيف منابع العصبية القبلية وإحلال مفهوم الانتماء الوطني بديلا عنه. وبذلت تونس جهودا كبيرة لتحديث البنية الاجتماعية عبر مكافحة الأمية ورفع نسب التعليم، لكن مستوى الوعي الفكري الفردي والجماعي بقي خاضعا لمفهوم الانتماء الضيق للعشيرة. ويرجع باحثون أكاديميون الأمر إلى التأثيرات التاريخية العميقة وتراث القبيلة الراسخ على المستوى النفسي، بالإضافة إلى تعدد أدوار العشيرة الوظيفية مقابل ضعف حضور المؤسسات الرسمية. وأصبحت الدولة تتعامل مع الظاهرة كأمر واقع ومحاولة التقليل من امتدادها. وقالت فتحية السعيدي الباحثة في علم الاجتماع التونسية، في تصريح لـ”العرب”، إن “ضعف حضور الدولة في المخيال الجمعي يأتي نتيجة عدم اندثار الوازع القبلي الذي بقي كامنا في المتمثل الشعبي”. ولم يقتصر حضور هذا الوازع على امتداد 60 سنة من الاستقلال على النزعات العروشية فحسب بل كان عاملا فاعلا في المعارك الانتخابية والسياسية. وأكدت السعيدي أن ضعف التنشئة الاجتماعية التي تلغي دور الفرد لصالح المجموعة أدى إلى قصور في استيعاب مفهوم المواطنة وضعف دور المجتمع المدني في تدعيم هذا الرابط لدى الفرد. وأضافت “الفرد تغلب عليه التبعية للجماعة بدل الاستقلال الذاتي ليصبح معها الانتماء للمجموعة البشرية الأصغر العامل المحدد للهوية في بعدها الضيق”. وترى السعيدي أن الثقافة السائدة تسهم في ترسيخ عقلية التبعية للمجموعة وتنعكس على أداء الأحزاب والمنظمات التي تعتمد نفس الآليات المحددة للعلاقات الاجتماعية وفق منطق العصبية والتكافل، ما يجعل من نشر قيم الديمقراطية والمواطنة أمرا محدودا. ويطرح تكرار الحوادث والصدامات العشائرية في عدة مناطق بتونس بعد ثورة 2011 تساؤلات حول العوامل التي أدت إلى عودة بروز العصبية القبلية بعد أن كانت حبيسة المعالجة الأمنية في عهد الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي. واعتمد النظام السابق مقاربة تجمع بين مسايرة العلاقات العشائرية القائمة والحد من تأثيراتها على استقرار الأوضاع. وقال محمد صالح العبيدي المحلل السياسي، في حديث لـ”العرب”، إن “عودة التجاذبات العشائرية يفسرها الضعف الرهيب للدولة في الفترات الانتقالية”. ويحمّل العبيدي النخبة الثقافية والسياسية جانبا من المسؤولية جراء انكفائها على نفسها وعدم إسهامها في نشر الوعي المدني واقتصارها على المسائل السياسية. ويرى العبيدي أن حل جانب كبير من الخلافات بين العشائر يرتبط بتسوية نهائية للإشكاليات العقارية وقضايا الأراضي الاشتراكية في تونس.
مشاركة :